وكنت أنكر على من يقبل وظيفة فيها. فهل أكون أنا موظفاً؟
تمر على المرء ساعات اضطرار لا يبقى له فيها خيار، وهل أملك أن أرفض الوظيفة ولم يبقَ لي ولا لأهلي مورد، وليس معي مال، ولا لي في غيرها أمل.
وكان من سياسة الفرنسيين أنهم يقطعون بالوظائف الألسنة ويكفّون عنهم بها الأقلام، كنت أعلم هذا وأعلم أني لو طلبت وظيفة كبيرة لأُعطِيتُها، ولكني قنعت من الشرّ بأقلّه، ورضيت أن أكون معلّماً كما كان كثير من رفاقي: سعيد الأفغاني وجميل سلطان وزكي المحاسني وأنور العطار، وكما كان بعض مشايخي: الشيخ محمد بهجة البيطار والشيخ زين العابدين التونسي والشيخ حامد التقي والشيخ (الطبيب) رفيق السباعي، وكثير غير من ذكرت من هؤلاء وأولئك، كانوا كلّهم معلّمين في المدارس الابتدائية وما أنا بأفضل منهم، بل كانوا هم أفضل مني، رضوا بأن يكونوا موظفين، فما لي لا أرضى بما رضوه لأنفسهم؟
وقضيت ليالي طوالاً لم أعرف فيها ما طعم النوم، أنصب ميزاناً في ذهني أضع في كفّة منه آمالي وأمانيّ وأضع في الكفّة الأخرى حاجات نفسي وأسرتي، هل أضحّي بالآمال والأماني أم أهمل واجبي وأضيّع أهلي؟ لقد كان امتحاناً صعباً، ولكني أنظر إليه اليوم من وراء إحدى وخمسين سنة فأجدني قد نسيت صعوبته، لذلك أعجز عن وصفه. إننا كالذي يمسك المنظار (التلكسوب) ينظر فيه فيرى الصغير كبيراً والبعيد قريباً، فإن قلبنا المنظار ونظرنا من عدسته الكبرى أبصرنا الكبير يصغر والقريب