بدأت حلقة اليوم من الذكريات بهذه الفقرة من مقالة لي نُشرت من أكثر من خمس وأربعين سنة لئلا يقول قارئ من القراء إني من حبي لنفسي أشغل الناس بحديثها، ولما لهم هم ولحديثها؟ حديثي عن نفسي حديث عنكم ولكم وليس لي أنا وحدي.
إني أكتب اليوم عن أمي، ولكن كل واحد منكم سيقرأ فيه الحديث عن أمه هو. ألم يقُل سبنسر إن الجميع يبكون في المآتم، ولكنّ كلاًّ يبكي على ميّته؟ فمن قعد يقرأ هذه الحلقة وله أم فليتدارك ما بقي من أيامها، لئلا يصبح يوماً فلا يجدها ولا يجد ما يعوّضه عنها. وإن كانت عجوزاً أو كانت مريضة أو كانت مزعجة بكثرة طلباتها، فاذكر أنها إن احتاجت إليك اليوم فلقد كنت يوماً أحوجَ إليها، وإن طالبَتك أن تقدم لها من مالك فقد قدّمَت لك من نفسها ومن جسدها، وأنها حملتك في بطنها فكنت عضواً من أعضائها يتغذى من دمها، ثم وضعتك كرهاً عنها، انتُزِعتَ منها انتزاع روحها. أما أبصرت يوماً حاملاً في شهرها التاسع، بطنها إلى حلقها لا تستطيع أن تمشي من ثقل حملها ولا تستطيع أن تنام؟ وإن لم ترَ بعينك امرأة تلد أفما سمعت صراخها من ألمها؟ ألم يبلغك ما تقاسي وما تتعذّب؟ لو سبّب لك إنسان عُشْر هذا العذاب لأعرضت عنه ولهجرتَه، هذا إن أنت رفقت به فما انتقمت منه ولا آذيتَه، ولكن الأم تنسى بعد لحظات من خروج الولد ألَمَها، ثم تضمّه إلى صدرها فتحسّ كأن روحها التي كادت تفارقها قد رُدّت إليها، وتُلقِمُه ثديها ليمتصّ حياتها، فيقوى بضعفها ويسمن بهزالها، أو يمدّها الله بقوّة من عنده فلا