وإن ضقت بطول حياة أمك، تخفي ذلك في أعماق نفسك وتنكره بلسانك، فقد كانت ترى فيك حياتها، إن تبسّمتَ أحسّتْ أن الدنيا تَبْسمُ لها والأماني قد واتتها، وإن بكيتَ بكى قلبها واسودّ نهارها، وإن مرضتَ هجرَتْ منامها ونسيَتْ طعامها، ترعاك ساهرة حتى تصبح، فإن أصبحت ظلّت ترعاك حتى تمسي. إنك لو أحببتها بقلبك كله لم توفّها إلا واحداً من المئة ممّا أولتك هي من حبها.
وإن كان لك أب شيخ كبير محتاج إليك، فاذكر أنه طالما تعب لتستريح أنت وشقي لتسعد، ما جمع المال إلا لك وما خسر ماضيه إلا ليضمن مستقبلك، وأنه كان يعود من عمله محطَّماً مكدوداً فتَثِب إلى حِجره وتقول له: بابا، وتمدّ يديك الصغيرتين لتعانقه، فينسى بك التعب والنصَب، ويرى المسرّات كلها قد جُمعَت له والمتاعب كلها قد نأت عنه. واذكر أنه ما زاد من عمرك يوم حتى نقص من عمريهما مثله، ولا بلغت شبابك حتى ذهب شبابُهما، ولا نلت هذه القوة حتى نالهما الضعف. أفئن بلغت مبلغ الرجال كان جزاءَهما منك الصدودُ والنكران؟
إن الإنسان يربّي كلباً فيفي له، وحماراً فلا يرفسه، ويُطعم القطّ فلا يَعَضّه، بل إن من الناس من يتألّف صغارَ الأسود والنمور وأنواع الوحش فتأنس به وتأوي إليه وتلحس -علامةَ الشكر- يده. ويُفني الوالدان نفسيهما في الولد فينسى فضلَهما ويجحد يدهما؟ يا عجباً! أيكون الكلب والحمار والقط والنمر أوفى من الإنسان؟!