الجيران إن كان الميت عظيمَ الشأن كثير الإخوان، لا الإخوان الذين يأتون للعزاء حقيقة يستشعرون الحزن ويشاركون في المصاب، فهؤلاء أقلّ من القليل، وما يحتاج هؤلاء إلى «ترتيبات» ولا إلى كراسي تُصَفّ ولا إلى غرف تُستعار، بل الذين يأتون رغبة أو رهبة، يجيئون يبتغون تسليف يد يطالبون يوماً بردّ مثلها أو حظوة يأملون الإفادة منها، لا حظوة عند الميت بل عند من بقي من أولاده وذويه، فإن لم يكن له ولد أو قريب يرجُى خيره أو يُخشى ضُرّه لم يأتِ منهم أحد.
أما الصباحيّة فتبدأ من بعد المغرب، وإنما سُمّيت صباحية لأنها كانت في المقبرة صبيحة الدفن يخرجون إليها بعد صلاة الفجر وقبل طلوع الشمس، ثم صارت في المسجد بين العشاءين، يجلسون يقرؤون القرآن من «الربعة»، وهي أجزاء القرآن كل جزء في مجلدة لطيفة، كل يقرأ وحده، فإذا انتهوا دعا واحد منهم للميت وللمسلمين وأمّنوا. وكانوا يديرون كؤوس الماء المحلّى بالسكر. ثم صارت في البيوت، يأتون بقارئ يقرأ القرآن فلا يُصغي إليه أحد ولا يتدبّر ما يتلو أحد. هو يقرأ والمعزّون يدخلون ويخرجون، وأصحاب المأتم يقومون ويقعدون، يودّعون ويستقبلون، ويدورون عليهم بالقهوة المرّة كأنهم في مقهى لا في مأتم. لا يختارون من القرّاء أعلمَهم بأحكام التجويد وأعرفَهم بمخارج الحروف وبمواضع الوقف، بل مَن كان أحلى صوتاً وأقدر على التصرّف بالأنغام وأدرى بمحطّ الألحان، وبلغ بهم الأمر (وهذا كله في الشام) أن جعلوا للقرّاء نقابة كنقابات الأطباء والمهندسين والسبّاكين والسوّاقين، ثم صنّفوا القرّاء أصنافاً ثلاثة