الضخم، كأنه «مقامع البلّور» كما وصفه ابن الرومي، وفي صدر الدار الإيوان تطل عليه غرفة كبيرة، كان فيها مقامي في هذا الشهر ومنامي.
وكنت أشعر من اللحظة التي ألِجُ فيها الدار أنني خرجت من الدنيا وخلّفتها وراء ظهري، فلا أرى منها شيئاً ولا أسمع فيها صوتاً. وماذا أسمع؟ وما كانت يومئذ هذه الأصوات التي تلحقك اليوم وأنت في قرارة دارك، تقضّ عليك مضجعك وتُفسِد عليك عملك وتكرّه إليك عيشك، فتفزع إلى طبيب الأعصاب وإلى الفاليوم والنوربيوم والتريبتيزول والأنسيدون وأسرتها الكثيرة العَدَد القليلة المَدَد، التي يصطفّ أمامي الآن على الرفّ اثنا عشر واحداً منها، لا بورك فيها!
لم يكن هذا الرادّ (الراديو) الذي نسمعه الآن من كل مكان وفي كل آن، لا يستريح ولا يريح، يطلع من قبل أن تطلع الشمس ولا ينزل ولو نزل ميزان الليل ودنا السحَر، إن سكتت محطة نطقت أخرى! ولو أن من أراد أن يسمع سمع وحده لما كان لي عليه سبيل لأن له أن يسمع ما يحب، لكن لماذا يجبرني أنا أن أسمع ما لا أحب؟ (١) إن الذي اخترع هذه «الإذاعة» لو علم أنها ستكون أداة إزعاج ووسيلة إجرام يضعها في يد الرجل الجاهل والمرأة الحمقاء لانتحر، فبلع حبة سيانور البوتاسيوم أو رمى نفسه
(١) اقرؤوا في كتاب «فصول اجتماعية» مقالة «ارحمونا من هذا الضجيج» والتي بعدها: «صيحة شكوى»، ومقالة «من حديث المزعجات» في كتاب «مع الناس» (مجاهد).