(إلى أن قلت): كنا نأمل أن ينشأ فينا مثل هذا الأديب، وكان يقوّي هذا الأملَ ما يظهر فينا من الشباب المبرزين في الأدب المخلصين للأمة وللوطن، حتى فاجأنا صوت خرج من حلق وطني بإيعاز أجنبي يقول لأدبائنا: دعوا الوطن وشأنه، لا تسخّروا أدبكم له ولا تُتعبوا أنفسكم من أجله، بل الهوا والعبوا فما الأدب إلا أُلهيّة! هذا ما قاله الأستاذ جبري لتلاميذه في الكلية، وأفهَمَهم أن هذه الكلية لم تنشأ لمثل ما أُنشئت له الحقوق والطبّ من تخريج رجال عاملين لمنفعة الأمة، بل لإخراج أناس يدركون جمال هذا العالَم. ولو شئت شرحاً لقلت: إن قوماً من البشر ساءهم فيضان الروح الوطني على معهد الحقوق وما يقذف به كل عام من الرجال الذين يكونون كالشجى في حلوقهم والقذى في عيونهم، فأحبوا أن يضربوه بمعهد آخر يعمل لغير ما يعمل له معهد الحقوق، ويطفئ هذه النار من الحماسة التي تضطرم في نفوس الحقوقيين، ويُخمِد من هذه العزائم التي ضُمّت عليها ضلوعهم فأصبحوا يدأبون على العمل لا يعرفون كلالاً ولا سأماً، ويقدم للأمّة أُناساً خاملين قد شغلهم الخيال عن الحقيقة، وألهاهم الأمل عن العمل، واللهو عن الجدّ ...
الأستاذ (أي شفيق جبري) يدعو إلى أدب مجرد يُمارَس ليُدرَك به جمال الوجود ويُفرَج به غمّ الحياة وكربها، ويصوّر من النفس عواطفها وميولها ومن الطبيعة جمالها وجلاها، وحْيَها وإلهامها، لا يعنيه أخلاق تُقوَّم ولا عادات تُصَحَّح، ولا تهمّه أمّة ولا وطن، فهو ليس إلا أُلهيّة شأنه شأن الملاهي الأخرى، وإن قال إنها «أُلهية شريفة»!