الذي أسدل الله عليه ستاراً حاجباً لم يكشفه لأحد، لكن يشقّه قليلاً لمن يشاء بمقدار ما يشاء. إنه عمل جديد في بلد جديد، لا أعني بالعمل التعليم فالتعليم عرفته وألفته، وأقول من باب التحدّث بنعمة الله: إني نجحت فيه من أول ما مارسته. ولكن أعني حياة الموظف، فهل أقدر عليها؟
الموظف الصالح (عندهم) هو الذي يطيع كل أمر وهو صامت؛ يطلق يديه بالتنفيذ ويمسك لسانه عن الاعتراض، يقيس الرجال بمراتبهم ورواتبهم ويقيم تقديره لهم على أرجل كراسيهم، فمن كان أعلى رتبة وأكثر راتباً وأضخم كرسياً كان هو المقدَّم، وكان هو الأفهم، وكان الأعلم! فهل أستطيع أن أروّض نفسي على هذا السلوك لأكون الموظف الصالح؟ هل أمشي مُكِباً على وجهي من كثرة الانحناء ليقولوا إني مثال الاعتدال؟
إن أثمن ما أقتنيه في حياتي حرّيتي وكرامتي، وأنا أبذل حياتي ليسلما لي ولا أبذلهما لتسلم لي حياتي، فكيف أقيّد حرّيتي بحبل الوظيفة وأُذِلّ كرامتي بالخضوع للرؤساء؟ أنا أذلّ أمام الله لأن الذلّ أمامه عزّ، والمسلمون الأولون لمّا وضعوا جباههم على الأرض ذلاًّ لله أعزّهم الله حتى وضع الجبابرة رؤوسهم عند أقدامهم. وأنا أخضع لحكم الشرع لأن الله هو الذي شرعه وأمرَنا باتباعه، وللقانون الذي يُقرّه أولو الأمر منا ويكون فيه مصلحة لنا ولا يخالف شرع ربنا. ولكني لم أذلّ يوماً لرئيس ولا انقدت لشهوته في التحكّم ولا استشعرت الصَّغار أمامه، لهذا كله لم أكُن موظفاً طيّعاً منقاداً بل كنت (عندهم) مشاكساً مشاغباً.