للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كنت أواظب على عملي لا أتأخر عن موعد الدوام بل أسبقه، وأقوم بالعمل كاملاً لا أنقص منه بل أزيد عليه، أعطي الوظيفة وقتي كله وجهدي كله، وأعترف للرؤساء بالحقّ الذي أقرّه لهم القانون وأعاملهم بالأدب الذي يقتضيه العرف، فإن طلبوا مني أكثر من ذلك أو ساوموني على عزّة نفسي وكرامتها لم يجدوا عندي إلا الإباء.

يحملني على هذا المسلك ثلاث: واحدة تكاد تكون فينا معشر العرب جميعاً، بقيت من عهد البداوة، هي الإفراط في «الفردية». إن كل واحد منا يشعر أنه جماعة وأنه أمة وحده، يريد النفع لبلده لكن بشرط أن يجيء على يده، فإن جاء على يد غيره نَفِسه عليه وتربّص به العثرات والسقطات. والواعظ يدعو الناس إلى الله ويرغّبهم في التقوى، فإن اتقوا عن طريق غيره وجد عليه وربّما تنكّر له!

ونحن جميعاً نكره النقد ولا نصبر عليه ونضيق بالمعارضة ولا نحتملها؛ إن أنت نقدت ديوان شعر صرت عدواً للشاعر وإن تكلمت عن كتاب صرت خصماً لمؤلف الكتاب، لذلك قلّت فينا الأعمال الجماعية، وإن وُجدَت فقدت روحها وصارت -غالباً- مؤسسة فردية: الفعل فيها لواحد والاسم للجماعة، كأن الله خلقنا على مثال الثوم (في شكله لا في ريحه): تأخذ رأس الثوم فتقشره فتجد فيه رؤوساً أصغر منه، فاقشر أحد هذه الرؤوس تَلْقَ فيها رؤوساً أخرى صغاراً، فنحن مثل الثوم كلنا رؤوس!

أما الثانية: ففينا أهلَ الشام، مَن أدرك منا أيام الانتداب (وهو الاستعمار) وما شابهها من الأيام، حين كان حُكّامنا من

<<  <  ج: ص:  >  >>