للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

غيرنا وكنا نرى موالاتهم ذنباً وطاعتهم ضعفاً ومدحهم جريمة، وكان من البطولة أن نعصي أوامرهم وأن نتمرّد عليهم. وبقيَت في نفسي بقيّة من هذا الشعور إلى الآن، حتى إنني أتحرّج حين أمدح من الحكام مَن هو صالح في نفسه مُصلح في عمله مستحقّ للمدح ما في مدحه ظلم ولا فيه معرّة، ولكنه أثر ما نشأت عليه ولم أتخلص منه.

الثالثة: فيّ أنا خاصّة، هي أنني خُلقت أبِيّاً على الظلم منيعاً على الاستبداد، لا أحترم الكراسي بل مَن كان عليها ممّن يستحقّ الاحترام لصلاحه وعلمه وفضله، فإن لم يكن من هؤلاء كان الكرسي -فارغاً- أكبرَ في نفسي وأملأ لعيني من الرئيس القاعد على الكرسي!

لذلك كانت حياتي في الوظيفة صداماً وعراكاً ونقلاً مستمراً من مكان إلى مكان. ثم إني لم أكُن أقصُر نزاعي مع الجَهَلة أو مع الظالمين من الرؤساء على مكان العمل، بل أنقله بقلمي إلى الصحف أُصليهم به ناراً وأقلّبهم على متوقد الجمر، وأحمله بلساني إلى المنابر أرجمهم من فوقها بنقد صادق أشدّ من وقع الحجارة على رؤوسهم. على أني ألين لمن يلقاني منهم بالأدب (والأدب واجب في لقاء الكبير بالصغير مثل وجوبه على الصغير عند لقائه الكبير) ولمن يعاملني بالإنصاف، بشرط أن يكون مستقيم السيرة طاهر السريرة شريف النفس، فإن كان فاسقاً أو منحرفاً أو فاسداً لم أَلِنْ ولو أولاني أكبر الاحترام ونالني منه أجزل النفع.

* * *

<<  <  ج: ص:  >  >>