للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وكانت تلك أول مرة أجاوز فيها دمشق شمالاً إلى أبعد من النبك، فكنت أتأمل المشاهد من حولي وأرقب الطريق من خلفي، أخشى أن تسقط إحدى حقيبَتَيّ كما سقطت في السفرة الأولى في طريق حيفا. فلما طال الطريق مللت وأغمضت عيني، ولكن ما نمت لأن مقعد السيارة كسر ظهري، فقد كان صُلباً عالياً قائم الظهر، لم تكُن هذه المقاعد المريحة ولا هذه السيارات الفسيحة المدفّأة في الشتاء المبرَّدة في الصيف. واذكروا أني أتكلم عن سنة ١٩٣٢، أي عمّا كان قبلَ خمسين سنة. ولم يكن في السيارة ممرّ من داخلها، بل كانت مقاعدها موصولة مصفوفة صفوفاً لا يوصل إلى أحدها إلا من باب السيارة أو من نافذتها، كانت كعربات الترام التي ألغيناها في الشام ونزعنا من الأرض خطوطها، ومرّت مدّة ثم رأيتها أمامي قد عادت كما كانت بقِدَمها وبِهِرَمها وبسَقَمِها، ولكن في بروكسل لمّا ذهبت إليها، قد رُدّت إلى أهلها لأن الشركة التي كانت عندنا بلجيكية جاءت من هناك.

إن القادم على بلدة جديدة يتخيل شكلها ويفكّر فيها ويعرض في ذهنه الصور الممكنة لها، ولكن صرفني عن ذلك تعبي في مركبي، ومللي من طول الطريق، وبرودة الهواء وبرد أحاديث الرفقاء، وأن المقاعد امتلأت بالركّاب فوقها وبالسلال والقِفاف والأحمال أمامها وفيما بينها، حتى إنه كان في الصف الأخير شاة تقول طول الطريق «باع» وأطفال يبكون يصرخون «واع»، والفكر ضاع بين باع وواع.

لم يكن في ذهني عن سَلَمية إلا ما يقوله مُنكِرو نسب الفاطميين من أن جدّهم (القدّاح) كان منها، لم يكن جدّهم

<<  <  ج: ص:  >  >>