للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الذي يفترّ أبداً عن مثل ابتسامة الأمل على حين تعبس الجبال! لن تلقوا بعدها مدينة مثلها: ثيابها زهر، ونسيمها عطر، وحديثها شعر، وجمالها سحر، ومياهها خمر، خمر حلال لأنها جنّة المستعجل.

إنها أقدم مدن الأرض العامرات؛ ماتت أخواتها من دهور وبقيَت سالمة، وأدركَتها سنّ الشيخوخة وهي شابّة، وكانت عروس الماضي وستبقى أبداً عروساً، فأمّوا آثارها وسائلوها تخبرْكم أخبار الأمجاد الخوالد، وترفّقوا في سيركم على ثُراها، فإنّ تحت كل حجر تاريخ بطولة، وفي ظلال كل دوحة قصة حب، وفي خرير كل ساقية قصيدة عبقرية لا تنتهي قوافيها. "دمشق التي تجمّع فيها ما تفرّق في مدن الأرض من الجمال: فالجِنان في غوطتها، والأنهار في ربوتها، والسهل في مزّتها، والبساتين تحفّ بها والجبال من حولها، وكل مجالي الوجود فيها، لا ينقصها إلاّ البحر، ومن قاسيونها ترى بحراً من الخضرة النضرة ما له من آخر" (١). "دمشق التي تحرسها «الرَّبْوَة» ذات «الشّاذِروان» وهي خاشعة في محرابها الصخري تسبّح الله وتحمده على أن أعطاها شطر الحُسن وقسّم في بقاع الأرض الشطر الآخر. وما «الرّبوة» إلاّ حلم ممتع غامض يغمر قلب رائيه بأبهى العواطف التي عرفها قلب بشر، حلم يذكّر كل إنسان بليالي حبه وساعات سعادته، ثم يتصرّم الحلم ويستحيل ذكرى حلوة لا تمحوها الأحداث. الربوة، لحن علوي وعته الأرض مرة واحدة حين أُلقيَ في أذن دمشق! كانت دمشق مدينة عامرة قبل أن تولد


(١) من كتابي «مقالات في كلمات».

<<  <  ج: ص:  >  >>