للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويسير بردى في غور عميق لا يخرج إلى هذه الجنّات الجميلة الفتّانة التي قامت على مقربة منه، يمشي في حضيض الوادي تلتطم مياهه وتصطدم كما كان العرب في جاهليتهم يقتتلون ويصطرعون، يشتغلون بأنفسهم عن العالَم من حولهم! حتى يبلغ بردى «الفيجة» فتصبّ فيه المياه العذبة الكثيرة من «عين الفيجة» التي يخرج ماؤها مندفعاً فوّاراً كأنه سيل ينحدر من قمة الجبل، كما خرج المسلمون يفتحون الأرض لينشروا فيها الخير الذي هبط عليهم من السماء في غار حراء.

تنزل مياه «الفيجة» في بردى فتضيع قلّته وكدورته في كثرتها وصفائها، ويكون منهما نهر جديد يعدو عَدْواً ويهدر ويعلوه الزبَد، وقد كان -من قبلُ- يمشي بطيئاً، قد خالطه الطين، يسرع إلى أرض الأزهار والثمار، كما انصبّت على عقائد الجاهلية مبادئُ الإسلام الصافية السامية. وترى بردى يتجافى بعكَره عن مياه الفيجة، يجاورها ويأبى أن يختلط بها، فيسير النهر مئة متر ترى الماء من يمينه معكَّراً، ذلك ماء بردى، ومن يساره صافياً رائعاً لأنه من ماء الفيجة؛ كما تجافى العرب عن الإسلام وأبوا أن يتبعوه وكادوا لأصحابه، حتى صارت الجزيرة كبَرَدى فيها عكَر الشّرك وفيها صفاء التوحيد، فيها المسلمون الموحدون المتحدون، والجاهليون المشركون المختلفون، ثم مكّن الله لرسوله فخضعت له الجزيرة التي لم تخضع قبله لمخلوق، واجتمعت كلها تحت رايته ولم تجتمع تحت راية أحد قبله، فقادها خلفاؤه إلى أرض التين والأعناب، لا لتستمتع بخيراتها بل لتمدّ بالخير أهلها، لاتريد أن تأخذ الغنى والترف منها بل لتقدّم

<<  <  ج: ص:  >  >>