للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتثبت الصورة؟ نعم، ولكنْ في هذه الدنيا، والدنيا -كما تعرفون- مؤنَّث الأدنى، أمّا الحياة العليا فهي الحياة الأخرى {وإنّ الدّارَ الآخِرةَ لَهِيَ الحَيَوانُ (أي الحياة) لَوْ كانوا يَعْلَمون}. وأنّى لمن لا يؤمن بالوحي أن يعلم بما لا يعرفه العقل إلا من طريق الوحي؟ أن يعلم بما وراء المادة التي حصر فكره فيها وقصر علمه عليها؟ وإن وراءها لَعوالِم أكبر وأكثر، لا يعلمون علمها لأنهم أعرضوا عن مصدره ولم يُقبِلوا عليه، فعاقبهم الله بكفرهم جهالة بتسعة أعشار ما هو موجود وغروراً يظنّون به أنهم يعلمون، وما يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون.

وأطلت النظر في الصورة فأثارت في نفسي خواطر وأفكاراً وذكرياتٍ، لو كنت أقدر على إبراز الأقلّ منها، وهيهات! لقد قلت مرة: يُطِلّ بي الفكر على آفاق واسعة، وتنبلج في النفس أصباح مشرقة، فأجد في نفسي عشرات من الصورة المبتكَرة وفي رأسي عشرات من الأفكار الجديدة، ولكني لا أكاد أمسك واحدة منها لأقيّدها بالألفاظ وأغُلّها بالكَلِم حتى تفلت مني وتعدو في طريقها منحدرة إلى أغوار عقلي الباطن، فلا أنا استمتعت بها استمتاع الناس بأفكارهم ولا أنا سجّلتها في مقالة صنعت منها تحفة أدبية. ولو أني قدرت أن أكتب معشار ما أتصور لكان شيئاً عظيماً، ولكني لا أقدر ... ولا أصبّ في مقالاتي إلا حثالة أفكاري؛ تنبت الأفكار في نفسي وتزهر وتثمر، ثم تذوي وتجفّ فآخذ الهشيم فأضعه في مقالتي! ويتفجّر الينبوع في نفسي ويتدفّق ويسيل، ثم ينضب وينقطع فآخذ الوحل فأضعه في مقالتي! وينبثق الفجر في نفسي ويقوى ويشتدّ، ويكون الضحى والزوال، ثم

<<  <  ج: ص:  >  >>