عليّ بما لست له بأهل أو هجوني بما لا أستحقّ، أو أعرضوا عني فأهملوني حتى نسوني ... ما الذي ينالني من ذلك كله؟ ماذا ينفع الميتَ من الثناء وماذا يضرّه من الهجاء، وماذا يؤثّر فيه الإهمال والنسيان؟ إنّ دعوة صالحة من قلبٍ حاضر من أخ مؤمن بظهر الغيب، خير للميت من ديوان كامل من عبقري الشعر في رثائه، ومن مئة خطبة في تأبينه وعشرة كتب في دراسة أدبه.
* * *
وقف هنا القلم وجمد الفكر، ولم يبقَ عندي ما أكتبه، فنحّيت صحيفتي وقعدت. وكانت أمامي بنتي ترتّب أوراقاً لي قديمة فاستخرجَت هذه الصورة وجعلَت تتأملها وتسألني عنها، فأخذتُها فإذا فيها تتمّة الموضوع، صورة أُخِذت في الأيام التي أكتب عنها الآن (مطلع الثلاثينيات)، المكان الذي أُخذت فيه هُدِمَ ولم يبقَ له أثر: مقهى في شارع رامي في دمشق، ذهب وقامت في موضعه عمارة كبيرة، والناس الذين بدوا فيها ماتوا ولم يبقَ إلا اثنان منهم، والدنيا التي كنّا نعيش فيها يومئذ تبدّلَت وصارت دنيا جديدة فيها ناس جُدُد. إنها تمثّل ما يملأ نفسي من صور ورأسي من أفكار وأنا أكتب هذه الحلقة، وما أظنني بحاجة إلى أن أقسم لكم أن الذي قلته هو الحقّ، ما تخيلت ولا جئت بهذا الكلام صنعة أديب بل هو الذي كان، ورُبّ مصادفة كما يقولون خير من ميعاد.
أمسكت الصورة أنظر إليها وأفكّر: أتكون صورة على الورق أبقى من حياة إنسان على الأرض؟ أيموت الإنسان ويُهدَم المكان