المزة، اعترضَتنا حظيرة من الجنود السنغاليين على رأسهم عريف فرنسي. فمنعونا، فأردنا أن نرجع من حيث جئنا فأبوا ذلك علينا. قلت لهم: فماذا نصنع؟ فأشاروا إلى الربوة، أي أن نهبط من وجه الجبل. وكان ذلك ممّا يشقّ على المحترفين من متسلّقي الجبال، فما بالكم بأولاد منزلهم الغوطة، ما عرفوا الجبال ولا ألفوا صعودها وهبوطها؟ والجبل من هنا كأنه جدار قائم عليه حجارة صغار، إذا وضع النازل رجله عليها تدحرجت من تحت رجله، فكأنما مشت الأرض أو خُسفت به فهوى معها.
عدنا إليهم نحاول إقناعهم، فلا أقنعهم العقل ولا حركتهم العاطفة ولا نفع معهم كلام، كأننا نكلم صخرة أو نخاطب دابة، وكلما ألححنا عليهم حرّكوا زناد البندقية ووجّهوها إلينا.
امتحان مرّ عليه نصف قرن ولم أنسَ ما قاسيت منه. وكان معي إخوتي الثلاثة، فكنت أضع أخي ناجي مرة أمامهم وأكون أنا من خلفهم، ومرة أكون أنا قدّام وهو من وراء، وكنت أدعو الله أسأله (إذا كان مقدَّراً على أحد منا الموت) أن أموت أنا أو أحد إخوتي وينجو أبناء الناس. هل يفرّط أحد بنفسه أو بأخيه أو يهون عليه فقده؟ ولكني اخترت أن أقع أنا أو أخي ولا أوقع أحداً من هؤلاء لأنهم أمانة في عنقي، فمن يخلّصني من آبائهم وقد عرّضتُهم أنا إلى الهلاك؟
وتردّد الأولاد وخافوا، وكنت أشدّ منهم خوفاً وأكثر تردّداً، ولكني تجلّدتُ وشددت صوتي وأمرتهم أمراً عسكرياً أن ينزلوا بعد أن علّمتهم كيف يكون النزول، وهددت من يتأخر أو يجبن