سنة، وأني سأكون في مكّة، وأني أذكر تلك الأيام وقد انطفأت حرارة ألمي منها حتى لأتحدث عنها كأن غيري هو المُصاب فيها؟
كنت أراها في حينها هي الواقع كله، كنت أحسب أنها آخر الدنيا وأنه كُتب عليّ تجرّعها وإن لم أسِغْها، فالحمد لله أن جعلها مجرد ذكرى وصيّرها حديثاً يُروى. فليأخذ المتألمون المعذَّبون العبرة من هذا الذي أقول، فما أسرد خيالات ولا ألقي مواعظ، بل أروي لهم ما وقع لي. وسيأتي على هؤلاء المتألمين المعذَّبين بمرض ينغّص عليهم عيشتهم، أو فقر ينكّد عليهم أيامهم، أو سجن ظالِم يقيّد أيديهم ويحرمهم أهلهم وأولادهم، أو عذاب مستمر من جبّار آثم يغاديهم به ويماسيهم ... سيأتي عليهم يوم يكون فيه هذا كله ذكرى في النفس وحديثاً في المجالس.
ومهما اشتدّ الضيق فالفرج موجود. اقرؤوا ما كتب الأستاذ مصطفى أمين عمّا قاسى في سجنه، وما كتب غيره عمّا في سجون الظالمين ومعتقلات المجرمين، وها هو ذا قد نجا منها ورجع يكتب والتفاؤل ملء بردَيه والأمل يظهر على سنّ قلمه.
وإن لم يرَ البائسُ الفرح في الدنيا، فما الدنيا؟ أيام معدودة، وإن الحياة الباقية لهي الحياة الآخرة، وهنالك يعوَّض المظلوم تعويضاً يرضيه، ويرى الظالم ما قدّم لنفسه.