والصياح، ثم قال الذين غلبوا وانتصروا: لابد من العودة. فعدنا ننزل من الجبل الذي صعدناه بدلالة «الحاجّ غراب».
ونزلنا فوجدنا جادة معبّدة فسرنا فيها، والدليل صامت، لم يعُد يسأله أحد ولا يبدأ هو أحداً بالكلام. سرنا أربع ساعات والجادة لا تنتهي ولا توصلنا إلى شيء، ثم وجدنا مركزاً عسكرياً فيه ضابط إنكليزي فسألناه: إلى أين تمشي هذه الجادة؟ قال: إلى العراق!
وبلغ من إهمالنا أننا لم نصحب معنا خريطة ولا حملنا بُوصْلة (١) نستدلّ بها على الجهات. هنالك وثبوا على الدليل يسبّونه ويضربونه، وهو يتحمّل ساكتاً صابراً صبراً عجيباً. ثم تركوه وركن كلٌّ منّا إلى اجتهاده، فقال قائل من السوّاقين: إن هنا حرّة فيها طريق يصل إلى القريات، وقد جزته وأنا أعرفه. قالوا: هلمّ بنا إليه. قال: الحقوني.
ووصل بنا إلى حَرّة من أوسع الحِرار وأعجبها، واسعة ممتدّة الجوانب ملتوية الأرض مفروشة بحجارة سوداء لمّاعة كأنما قد صُبّ عليها الزيت، أكثرها حادّ الأطراف كالسكاكين، فلما بلغنا وسطها رأينا بقايا طريق كان يوماً معبّداً ولكنه تخرّب وغطّته الحجارة، فكنّا ننزل من السيارة فنزيح الأحجار من طريقها لتمشي، وكنّا إذا بلغنا هضبة لا تقوى السيارة على صعودها ربطنا السيارة بالحبال وجررناها من أمامها ودفعها ناس منّا من خلفها. واستمرّ ذلك إلى الغروب، وقد قطعنا في هذا الطريق تسعين
(١) الكلمة طليانية، وقد ثبت أن العرب عرفوا البوصلة واستدلّوا بها.