الذي عرفته أننا تركنا «وادي السرحان» العظيم عن شمائلنا وسرنا إلى الجنوب، جنوب بشرق، حتى لاحت لنا على اليمين جبال عالية فقصدناها، حتى إذا اقتربنا منها سرنا بحذائها على أرض ما رأيت أعجب منها، فهي أرض سوية متسعة فيها حجارة سود مرصوفة رصفاً، كأنها أرض ميدان واسع في مدينة كبيرة فُرشت ومُهّدت تمهيداً.
مشينا في طرفها تسعين كيلاً حدّدها عدّاد السيارة، قال الدليل: إن اسم هذه الأرض «بُسَيْطة» بصيغة التصغير، حتى وجدنا ثغرة (شِعباً كبيراً مثل الوادي) فدخلنا هذه الثغرة، فإذا نحن في وادٍ موحش ما رأيت (وقد قطعت بعد ذلك ما بين سورابايا في آخر جاوة وفولندام في شمال هولاندة) ما رأيت مكاناً أوحش منه! كنّا فيه وحدنا لا إنسي ولا جنّي، ما رأينا فيه مخلوقاً حياً، حتى أمسى المساء فبتنا فيه ليلة اللهُ وحده يعلم كيف كانت، ولم يُدرِك الدليل -على حذقه- أننا ضالّون حتى أصبحنا غداة الغد.
أكون أكذَبَ الناس إن قلت لكم إنني لم أخَف. لقد خفت وخاف كلّ من كان معي، خالط قلوبَنا الرعبُ من أن تكون نهايتنا ميتة في قفر ما فيه أحد يغسّلنا ويصلّي علينا ويواري أجسادنا التراب، ولا يكون لنا قبر يستوقف السالكين ليُهدوا إلينا بعد الموت هديّتهم: دعوة صالحة. وهل هنا من سالكين؟ نموت ولا نرى دمشق ومن خَلّفْنا في دمشق من إخوة وأهل وأحبّة؟ وأين منّا دمشق وبيننا وبينها مسيرة سبع ليال بالسيارة؟ وما إليها سبيل.
أين بردى يجري زاخراً موّاراً ونحن هنا عِطاش، بدأ يشحّ