حتى بلغت حديقة لحظت أنها مرتع أطفال الأغنياء لما يبدو عليهم من آثار السرف والترف، وكان على باب الحديقة عجوز قد أمال ظهرَها ثقلُ ما حملت من كثرة السنين، وفي يدها طفلة كأنها الفلة المتفتحة جمالاً وطهراً في ثياب قديمة لكنها نظيفة، وكانت تنظر إلى هذا العالَم كأنه غريب عنها.
وكان الأولاد يشترون أكف «الشوكلاطة» من بياع هناك، وكانت تنظر إليهم وهم يقشرون أوراقها ويأكلونها بعيون يلمع فيها بريق الرغبة المحرقِة يعقبها خمود اليأس المرير، ثم غلبها الطمع فلكزت خصر جدتها العجوز بمرفقها، حتى إذا التفتَت إليها أشارت بغمزة من عينها وحركة سريعة من يدها إلى الشوكلاطة، فتبسّمَت الجدةّ بعينيها ولكنّ مقلتيها كانتا تبكيان بلا دموع، وقلّبَت كفّيها إشارة العجز والفقر. فاشتريت لها أكبر كفّ من الشوكلاطة وذهبت فدفعته إليها، فنظرَت إليّ نظرة المشدوه، ثم نظرَت إلى جدتها كأنها تستنجد بها تسألها، فأشرق وجه العجوز بابتسامة كأنها إطلالة الشمس في يوم كثيف الغمام، وقالت بلسانها كلاماً لم أفهم منه إلاّ «تريما كاسي»(أي شكراً)«بنجاوم عمر»(أي الله يطول عمرك). وأسرعت البنت تجرّ جدّتها تُسرع بها، كأنها قطة أعطيتها قطعة لحم فهي تسرع بها كأنما تخاف أن أندم فألحقها لأستردّها منها.
لم أخسر أكثر من أجرة سيارة أركبها في نزهة أريدها، ولكني ربحت من اللذّة ما لا أجده في مئة نزهة. أحسست أن ما كان في قلبي من الضيق قد انفرج، وما كنت فيه من الكرب قد زال، وأنه رُفع المنظار الأسود عن عيني فرأيت بهاء الكون