للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

جناح أكبر من بيتي في الشام، ولكني كنت فيه في سجن، كان حاشرة (زنزانة) ولكنها واسعة، أرى بعيني ولا أتكلم بفمي، أبصر (١) من حولي الهولنديين (من بقي منهم سنة ١٩٥٤) أبصرهم مع أسرهم وأولادهم وبيني وبين أولادي ربع محيط الأرض. وجاء العيد، والناس يفرحون بالعيد وأنا أنشد مع المتنبي ما قال في العيد، وخرجت إلى ساحة مرديكا (ومعناها ساحة الاستقلال، وكان اسمها قبل الاستقلال ساحة كامبير) وبنفسي من الضيق ما لو وُزّع على ذلك الحشد الذي لا يُحصي أفرادَه عدٌّ لغَمّهم كلهم، الألعاب والباعة والأطفال، دنيا من الناس يموج بعضهم في بعض، وأنا في دنيا من هَمّي وغَمّي وضيق صدري، لا أجد من أكلّمه أو أفهم عنه أو يفهم عني. وما العيد إن لم يكن معه الأنس ببلدك وأهلك وأصدقائك؟ وما العيد إن لم يكن فيه للنفس متعة وللقلب اطمئنان؟ إنه لا يبقى منه إلاّ رقم على صفحة التقويم.

وجدت ساحة كامبير كأن قد نبتت فيها عشرون ألف زهرة في ليلة واحدة، لا أعني زهرات الحقل ولكن زهرات البيوت؛ كان نساء جاوة الحلوات (غير الجميلات) يختَلْنَ في الثياب العجيبة الملوّنة بمثل ألوان زهر الروض، وكان لهن أفانين من التسليات والألاعيب، ولكني كنت عن ذلك كله في غفلة. كنت أمشي بلا قلب لأن قلبي بعيد، بعيد في المكان والزمان، إنه يهيم في أودية الماضي يسرح في تلك السفوح الحبيبة من قاسيون ...


(١) من هنا إلى آخر الحلقة من مقالة «صورة من الطريق» المنشورة في كتاب «في أندونيسيا» (مجاهد).

<<  <  ج: ص:  >  >>