للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حضرت دروسهم، أما الشيخ عيد فكان له أبقى الأثر فيها. وما كان يعلّمنا ولا يلقي علينا دروساً، بل كان يلقي الكلمة فيصيب حبّات القلوب منّا. وأنا قد نسيت أكثر ما سمعت من دروس المدرسة، ولكن أمثال هذه الكلمات التي تأتي في موضعها وتقترن بمناسبتها لا تزال في أذني وفي قلبي.

كان شيخاً كبيراً وكنا نتكوّم حول مكتبه، يبري لنا أقلام القصب ويُهدي إلينا رسائل عليها خطّه (وكان يُحسِن الخط) ويحدّثنا، فإذا أراد أن يؤدّب واحداً منّا أخذ برأسه فحناه على صدره (صدر الشيخ) ثم أمسك بالعصا بجمع يده، إبهامه إلى أعلى، ثم ضربه على ظهره ضربات لا تؤذي. وكان إذا شتم قال للمذنب: «يحرق بدنك»، ويضرب لنا الأمثال فيقول: كونوا مستقيمين، ولكن استقامة «الحورة» (١) لا استقامة عمود الكهرباء؛ الحورة تميل قليلاً مع الريح وتبقى على استقامتها، أما العمود (وكان يومئذٍ من الخشب) فإنه يعاند حتى ينكسر.

ولطالما حفظت أحاديث صحيحة وأحكاماً فقهية ووعيت نصائح وحِكَماً انتفعت منها في حياتي، كل ذلك من هذه الكلمات. فإذا دخل الغرفة المراقب (وكنا نسميه الناظر، وهو موظف لديه وتابع له) قال ضاحكاً: لقد جاء فاهربوا.

ومن هو الناظر؟ هو الشيخ محمود العقاد، أحد تلاميذ أبي وأقربهم منه صلة، وكان حسن الصوت مجوّد القراءة يُتقن


(١) أي شجرة «الحور»، يقول شوقي في شاميّته:
والحورُ في دُمّرٍ أو حولَ هامتِها ... حورٌ كواشِفُ عن ساقٍ وولدانُ

<<  <  ج: ص:  >  >>