سبقت شطحات الخيال؟ هذا ما وقع في المملكة في خمسين سنة، من زيارتي الأولى سنة ١٣٥٣هـ إلى الآن.
إن قطار الحضارة والفكر يجري دائماً إلى الأمام، يسيّره في كلّ مرحلة قائد من إحدى الأمم. ولقد مرّ يومٌ كنّا فيه أصحاب هذا القطار، وقدناه في الليالي السود حيث لا يدلّنا على الطريق صُوىً (١) منصوبة ولا مصابيح، حتى إذا بلغنا به المحطّة الآمنة جلسنا نستريح فنمنا.
وجاء من زاد القطارَ قوّة في محرّكه وسرعة في سيره، وقاده من دوننا ونحن نيام، حتى بدأنا نستيقظ. وكانت يقظتنا الروحية على دعوة الشيخ ابن عبد الوهاب والمادية على صوت مدافع نابليون؛ أفاقت مصر ثم أفاقت الشام على وقع أقدام المستعمرين، ما جاؤوا حباً بنا ولكن طمعاً فينا، فعلمنا بهذه الحضارة الجديدة وجعلنا نأخذ منها، من خيرها ومن شرّها، يمرّ القطار على بلادنا بلد بعد بلد يوقظ بضجيجه من بقي نائماً. فكان آخر من استيقظ هذه الجزيرة، جزيرة العرب التي كانت قديماً أول من أفاق، ومنها خرجَت الشعوب التي حملت مشاعل الحضارات الأولى فسارت إلى وادي النيل ووادي الرافدَين وإلى سواحل
(١) قال علي الطنطاوي -في غير هذا الموضع- إن الاسم العربي الفصيح لما يضعونه على الطرق من علامات يستدلّ بها المسافر في سفره هو «الصُّوى». وفي المعجم: "الصُّوَّة هي ما نُصب من الحجارة ليُستدَلّ به على الطريق، جمعه صُوى". وفي الحديث: «إن للدين صُوىً ومَناراً كمَنار الطريق» (مجاهد).