ولكن مكّة التي بلغتها يومئذ ليست مكّة التي أقيم فيها الآن، فهل أستطيع وأنا في سنة ١٤٠٣ أن أعرض عليكم صورة مكّة التي عرفتها سنة ١٣٥٣؟ هل أقدر أن أحدّد معالمها، وقد طال العهد بها ومحت الأيامُ ذكراها؟
إنها خمسون سنة -يا سادة- طمست كثيراً من هذه المعالم في ذهني، بدّلت خطوط الصورة ورسمت في مكانها خطوطاً جديدة، فلم يبقَ من القديمة إلاّ بقع صغيرة بهتت ألوانها من كرّ الليالي ومرّ السنين. فهل تقنعون مني بعرض هذه البقع الباقية من الصورة إن لم أستطع عرض اللوحة كلها؟ وأنتم -يا أهل مكّة- أدرى بشعابها وأعرف بما كانت عليه وما صارت إليه، وفيكم أدباء في مثل سنّي ولهم أذهان أحدّ من ذهني وأقلام أمضى من قلمي، منهم مَن عرفت في تلك الزَّورة الأولى كالأستاذ محمد سعيد العامودي مدّ الله في عمره، فهم أولى بالكتابة مني. وما أعرفه عن مكّة من خمسين سنة مهما كثر لا يبلغ الأقلّ الأقلّ ممّا يعرفون؛ فهم أهل البلد وأنا عابر سبيل رأى شيئاً وغابت عنه أشياء. زرت مكّة ورجعت إلى بلدي، ثم زرتها مرّات ورجعت، ثم شرّفني الله وأكرمني بالإقامة فيها من عشرين سنة، فجئت هذه المرّة ولم أرجع لأنه قد حيل بيني وبين الرجوع، والله هو المستعان، أسأله وحده أن يكتب لي رؤية بلدي قبل الممات. وما بلدي بأفضل من مكّة أو المدينة، أستغفر الله، ما أؤثره ولا يؤثره مسلم عليهما، ولكن حُبّب إلى كل امرئ بلده: