للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أزهى الصور التي جئت بها إلاّ كوباً من بحر ممّا شعرت به. وأحسست مثل ذلك أو بأكثر منه لمّا رأيت المدينة بعد اختراقنا الصحراء، لمّا قال لنا الدليل: أكتب يالْ الكاتب، هذا «أُحُد».

لقد دخل تحت يدي في حياتي أشياء كثيرة ثمينة وعزيزة، وأضعت في مساربها أشياء كثيرة جميلة وغالية، وما ملكت شيئاً ثم خسرته كان أكبرَ قدراً وكان فَقدُه أعظمَ خسراً من ذلك الشعور عندما تكحّلَت عيناي بمرأى مثوى الرسول ‘ في المدينة والكعبة في مكّة. وأنا لا أفرّق بين الحرمَين، وأنا أعلم أن مكّة أفضل وأن ثواب الصلاة في حرمها أجزل، ولكن لا أدري لماذا أجد أُنسَ النّفسِ في المدينة؛ ألأن المدينة مرتبطة بعزّ الإسلام؟ ألأن الفتوح انطلقت منها فكانت عاصمة الدنيا؟ ألأنها وَلدت دمشق المسلمة وبغداد والقاهرة وخرجت منها الرايات التي ظلّلَت ثلث المسكون يومئذ من الأرض في ثلث قرن، فاقترن اسمها بالنصر والمجد والظفر؟ أم لأن لنا -أهل الشام- صلة قديمة بأهل المدينة من أيام الحرب الأولى، حين هاجر أكثر أهلها إلينا فعرفناهم وعرفونا، وأحببناهم وأحبّونا، وأخذنا بعض عاداتهم وتعبيراتهم في كلامهم وأخذوا منّا؟ أم الأمر كما كان يقول أحد مشايخنا: التجلّي في مكّة تجلّي جلال وفي المدينة تجلّي جمال؟

على أن مكّة لا تزال أصل الإسلام؛ فيها بيت الله وهي أحبّ البلاد إلى الله، ولمّا صعدت جبل حراء سنة ١٩٥٧ (وكان فيّ بقية من الشباب) كان الدليل "يطأ الصخر وطء متعسّف جبّار ويدحرج الحجارة بقدميه، فصرخت به: ترفّق ويحك، فإن هذه

<<  <  ج: ص:  >  >>