وليس بدعاً أن يُترك أحد أبواب السور القديم في وسط الشارع العريض في البلدة الجديدة، فإن أحد أبواب دمشق السبعة (وهو باب توما) تركوه قائماً وحده في الشارع، ورأيت في القدس لمّا مررت بها وأنا ذاهب إلى مصر سنة ١٩٢٨ باباً مثله، ورأيت في آخن (وهي التي يسمّيها الفرنسيون «إكس لا شابل»، التي كانت عاصمة شارلمان وتقع اليوم على حدود ألمانيا وبلجيكا وهولندا وتلتقي الحدود الثلاثة في داخلها)، رأيت فيها أبواباً قديمة من أكثر من ألف ومئتَي سنة أبقوها قائمة في الشوارع الحديثة. بل إن من المدن ما بقي على حاله وجعلوا المدينة الجديدة إلى جنب القديمة كما صنعوا في فاس.
ولمّا زرت مدينة هانوفر سنة ١٩٧٠ وجدت في بلديّتها (أو بلدية فرانكفورت، نسيت) خريطة مجسَّمة لما كانت عليه لمّا صَحَتْ من حلم الحرب الثانية وهي مدينة مخرَّبة، مجموعة عمارات مهدَّمة، إذ كانت تظلّلها سحائب الموت، ألف طيارة أو أكثر من طيارات الحلفاء تمطرها الموت والدمار ألواناً وأشكالاً ممّا أنتجَته حضارة المتمدّنين، أنصار حقوق الإنسان الذين قدّموا من الخيرات للبشرية ما لم يقدّم مثلَه أحدٌ قبلهم: قنبلة هيروشيما، وإسرائيل، والاستعمار، والماركسية، وأمراضاً جديدة جنسية ما حفظت أسماءها ... هل في ثمرات الحضارات ما هو أعظم؟
فيا ليت أمانة جدّة تصنع خريطة مجسّمة للبلدة الآن تبيّن سعتها وامتداد شوارعها بصورة تقريبية، وتضع وسطها خريطة