كلها بين قصَريه، وبعد ذلك الجبل: جدار من الصخر ... أتخيّل الآن كيف تكون حال الرجل من أهل مكّة يومئذ لو قلت له إن السيارة ستصعد هذا الجبل وتمرّ منه إلى عرفات، بل كيف تكون حاله لو قلت له إن جبال مكّة كلها ستُشَقّ أجوافها وتمتدّ الطرق في أحشائها من السَّد (١) إلى الأبطح (أي المعابدة)، وأن الطائرات الوثّابة (الهليوكبتر) ستحوم فوقها، وأن عدد السيارات الخاصّة في المملكة زاد على المليون بما هو قريب من ربع المليون، وأنّ وأنّ ... ممّا نراه الآن أمامنا وما كان قبل خمسين سنة ضرباً من الخيال الجامح، حتى لو جاء به أديب لأمسك النقّاد بتلابيبه وقالوا: إن الخيال مقبول، ولكن إن بلغ هذا المبلغ صار من التوهّم المرذول وصار صاحبه محموماً يهذي لا أديباً يتخيّل.
الذي تحقق الآن كان قبل خمسين سنة فقط ممّا يُظَنّ أنه مستحيل. مشينا إلى الأمام على طريق الحضارة (أو المدنية) المادّية، ولكنا رجعنا إلى الوراء في طريق الحضارة الروحية، أو ما شئتم فسمّوها. كان من المشاهد المألوفة سنة ١٣٥٣ أن أسمع الأذان فأرى البياعين يتركون دكاكينهم مفتوحة، يضعون في مدخل الدكّان كرسياً أو يجعلون فوق البضاعة عصاً، حتى إن الصرّافين وأمامهم أكوام الريالات وأنواع العملات يتركونها أو يغطّونها بقطعة من القماش ويذهبون إلى المسجد، فلا يمسّ ما تركوا أحد ولا يخطر على بال أحد أن يمسّه. ولمّا قدمنا المدينة (في الطريق إلى مكّة) افتقدنا حقيبة، فخبّرْنا أمير المدينة عبدالعزيز
(١) أهل مكّة يقولون «السُّدّ» بضمّ السين، وهو فصيح للسدّ الطبيعي وبالفتح للسَدّ الصناعي.