في الحلقة الماضية، ولكن لا بأس بأن أحدّثكم بشيء جديد عن هذا الرجل.
هذا الرجل كان معلّماً عظيماً، ولم يكُن يلقي علينا دروساً محدّدة الأبواب واضحة المنهج، بل كان ينثر أقواله ونصائحه نثراً، يلقيها علينا ونحن متكوّمون عليه حول مكتبه، وهو يجول بيننا في ساحة مدرسته، بل كان لا يحجبها عنا وهو يؤدّبنا. وربما مرّت الكلمة فلم نلتفت إليها عندما كان ينطق بها ولكنها كانت تُغرَس في نفوسنا، تنزل إلى أعماقها، حتى إنني لا أزال أذكر أكثرها إلى الآن كلما دعت إليها مناسبات المقام.
وأمثال هذه الكلمات يلقيها معلّم يجتمع له في قلب تلميذه الحب مع الاحترام هي التي تبقى على كرّ الأيام، وإن نُسيت محاضرات الفصل التي يكون فيها الامتحان. أضرب لكم عليها مثالاً: تجوز الصحراء فلا ترى إلاّ أرضاً جرداء، لا ظل ولا ماء ولا نبتة خضراء، فإذا نزل المطر اهتزّت وربَت وكُسيت ثوباً أخضر من العشب والزهر وصارت مرعى للسوائم ومتعة للنظر، فمن أين ترونه قد جاء هذا النبات؟
مِن بذور صغار قد لا تأخذها من دقّتها الأبصار، قد ركّب الله لبعضها ما يشبه الأجنحة القصار، تحملها الرياح فتلقيها بين حبات الرمال، فلا ترى إلا تلالاً من الرمل تتلظّى تحت وهج الشمس. فإذا أنزل الله الأمطار وجمع الله لها «الظروف» التي جعلها سبب الإنبات كان منها هذا النبات، وكان منه الزهر البارع والثمر اليانع، أو كان منه الشوك الجارح والسم الناقع.