للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ونأينا عن مكّة بأجسادنا وخلّفنا فيها قلوبَنا وأفئدتنا. ولولا أننا نأمل أن نداوي لوعة هذا الفراق بروعة ذلك التلاق، لقاء المدينة، لَتضعضعَت قلوبنا من موقف الوداع.

ومشينا من حيث مشى سيد البشر محمد ‘ إلى حيث أراد: من مكّة إلى المدينة. وذكرت الهجرة التي لم تكن نقلة لثلاثة رجال من قرية إلى قرية، ولكنها رحلة التاريخ البشري كله من عهد إلى عهد؛ من الليل الذي طال حتى ظنّ المظلومون الذين يترقّبون الفرج أنه لن يطلع عليهم بعده النهار، من عهد الاستبداد والقهر والجهل إلى عهد الحضارة الخيّرة النيّرة التي جمعَت مطامح الروح، ومطالب الجسد، ومنطلَقات العقل.

لقد كان أعظم موكب مشى على ثرى هذه الأرض. لم يكن موكباً ضخماً، ولم تكن تتقدمه الطبول والصّنجات، ولم تكن ترفرف فوقه الأعلام والرايات. ولم يكن يحفّ به الجيش معه الحرّاس والأعوان، ولكن تحفّ به ملائكة الرحمن وترفرف فوقه راية القرآن، وتتقدّمه البشائر من السماء بأن رحمة الله للعالمين قد أقبلَت، وتمثّلَت بشراً يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وُلد ويموت، وكان يصحّ ويمرض ويجوع ويشبع. بشر مثلكم ولكنكم لستم مثله وليس فيكم من يقدر أن يدانيه فضلاً عن أن يساويه أو أن يساميه، ولو لم يكن خاتم الرسل لكان أفضل البشر خُلُقاً وسُمُوّاً وصفاء ونقاء.

وإذا كان العرض العسكري تُمثَّل فيه فرق الجيش وفصائله بأفراد منها تمشي فيه، فهذا العرض يمشي فيه وراء محمد ‘ من خلال القرون الآتية خرّيجو مدرسة محمد من كل خليفة كان

<<  <  ج: ص:  >  >>