من المفازة الجرداء إلى الواحة الشَّجْراء، وسط الظلّ عند ينبوع الماء. أفارق الذين فرّقوا دينهم لمّا فرّقتهم دنياهم فصاروا شِيَعاً وأحزاباً، لألقى الذين ألّف الله بين قلوبهم حتى أصبحوا بنعمته إخواناً.
سألني مرّة صحافي في المدينة: ما الذي تشعر به حين تزور المدينة أو تأتي مكّة؟ فقلت له: لمّا كنت في إحدى قدماتي المدينة سالَ العقيقُ، وكتبت عنه فصلَين في «الرسالة» سنة ١٩٣٥ (١)، وغرق في هذا السيل مرّة ثلاثة من الشبان. فلو أنهم نجوا وسألتَهم ما الذي يشعرون به، فبماذا تراهم يجيبون؟ إني أشعر بما يشعر به الغريق حينما تمتدّ إليه يد الإنقاذ فيصافح أنفه الهواء بعدما ملأ رئتيه الماء، أو السجين حينما يخلّف وراءه قضبانَ الحديد ويستقبل حياة الحرّية من جديد ... شعور المحبّ امتدّ به الفراق وازدادت منه الأشواق ثم نَعِمَ بساعة التلاق.
كل امرئ يحبّ وطنه لأنه إطار حياته وخزانة ذكرياته، ولكن إذا وقف على أطلال ديار الأحبّة أنساه موطنَ الجسد أنه رأى منزل القلب. فإن زار مَراح الأرواح، مبعث النور، مَشرق شمس الإسلام، نسي عند دار الروح دارَ الجسد ودارَ القلب.
ها هنا في المدينة وفي مكّة مهاد الأفئدة، هنا الإيمان والأمان، هنا منازل الأحبّة، هنا أذكر محمداً وصحبه. هنا عاش تاريخ المجد، وُلد هنا ونما هنا. فهل في الأرض مسلم لا يفضّل
(١) انظر مقالة «وقفة على العقيق» في كتاب «من نفحات الحرم» (مجاهد).