أريد أن أسَمّيه. قابلني بكِبْر وهو قاعد في مكانه، وسلّمت عليه فلم يردّ السلام وتشاغل بأوراق أمامه، ثم رفع رأسه وقال لي: أنت ماذا تعمل؟ ما هو عملك؟ عندئذ نسيت الوظيفة ونسيت أني محتاج إلى مرتّبها وأنني أعول إخوة لي لا مورد لهم غير هذا الراتب، نسيت هذا كله ولم أذكر إلاّ أن كرامتي قد مُسّت. قعدت أولاً بلا إذن منه وقلت له: أنا وظيفتي معلّم، أعلّم الكبار والصغار، أعلّمك أنت قبل كل شيء أن تستقبل ضيوفك باحترام لأن العربي يُكرِم ضيفه، وأن تردّ السلام على من سلّم عليك لأن ردّ السلام واجب في دين الإسلام. قال: لي أنا تقول هذا الكلام؟ قلت: نعم، وستقرؤه في الجريدة وتسمعه من فوق المنبر.
لمّا رأى هذه اللهجة وهذا الكلام قال: لماذا أنت على هذه الدرجة من العصبية؟ ثم لان وبدّل أسلوبه معي وقال: أنتم هكذا معشر الشباب! وتكلّم بأمثال هذا الكلام، وطلب لي كوباً من الشاي وهدّدني خفية بالنقل إلى دير الزور أو إلى الجزيرة. عندئذ كلّمته وقلت: يا معالي الوزير، أنا والله إن ذهبت إلى الجزيرة لا أتبخّر بشمسها ولا أذوب بمائها، وأبقى صامداً كما أنا الآن ولا أقول -إن شاء الله- إلاّ كلمة الحقّ. فلم يكن منه أمام هذا الصمود وهذه اللهجة الحاسمة إلاّ أن وقف وودّعني بنفسه، ولم يلُمني على شيء بل كاد يوافقني على ما كتبته. وهذا الوزير كان معدوداً من الوطنيين!
* * *
وقعَت لي في هذه الفترة حوادث أذكر لكم واحدة منها: أرأيتم النمل إذا مشى صفاً واحداً لا تحيد عنه نملة. كل واحدة