لو كانت الوقفة في بلاد الجمال أو المال أو الثقافة أو اللهو والتسلية لاشتغل الحُجّاج بذلك عن الوصول بقلوبهم إلى الأُنس بالخلوة بالله وإلى لذّة مناجاته؛ لذلك كانت الوقفة في أرض خالية ما فيها ما يشغل القلب أو البصر أو العقل، وكانت بثيابٍ ما فيها من معاني الثياب إلاّ أنها تستر الجسد وتحجب العورة، فلا أناقة ولا زينة ولا تفاخر ولا تفاوت. وكان القعود فيها على الأرض تحت الشمس أو في خيام ليس فيها من معاني البيوت إلاّ أنها تمنع الشمس، فلا قصور حولها البساتين الواسعة ولها الأبواب الشارعة ولأبوابها الأقواس الرائعة وعليها الصور البارعة، لا شيء من ذلك كله. قد اختُصرت الدنيا واقتُصر منها على هذا الأقلّ الذي لا بد منه ولا غِنى عنه، لتشغل من قلب الحاجّ الحدّ الأدنى للاهتمام بها، وينصرف القلب إلى ذكر الله والاستعداد للآخرة.
إنكم تعيشون أيامكم كلها للدنيا، تهتمّون بها وتجمعون لها وتحرصون عليها، فاجعلوا هذه الساعات من هذا اليوم للآخرة؛ فرّغوا قلوبكم لها نصف نهار. وأنا أعلم أن الشيطان لم يكن ليدَعكم، والشيطان موكّل بالإنسان يأتيه من أمام ومن خلف ومن يمين ومن شمال، ويجري منه مجرى الدم ويوسوس له ويحوم حوله كالعدوّ يحوم حول القلعة، فإن وجد حُرّاس القلعة ساهرين يرمونه بالرصاص إذا تقدّم ووجد القلعة مُحكَمة البنيان ليس لها منفذ وقف بعيداً، فإن وجد غفلة من الحارس أو ثغرة في الجدار دخل.
وقلعة الإيمان حِراستُها بيقظة القلب والدفاعُ عنها بذكر الله، وثغرات الشيطان إليها كثيرة ولكن أوسعها اثنتان: الشهوة