للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تَجَلَّى مِنْ عَظَمَةِ اللَّهِ لِلْجَبَلِ إِلَّا مَثَّلُ سَمِّ الْخِيَاطِ حَتَّى صَارَ دَكًّا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَا تَجَلَّى إِلَّا قَدَرَ الْخِنْصَرِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وَقَالَ: "هَكَذَا" وَوَضَعَ الْإِبْهَامَ عَلَى الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى مِنَ الْخِنْصَرِ، فَسَاخَ الْجَبَلُ (١) .

وَحُكِيَ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَظْهَرَ مِنْ سَبْعِينَ أَلْفِ حِجَابٍ نُورًا قَدَرَ الدِّرْهَمِ فَجَعَلَ الْجَبَلَ دَكًّا، أَيْ: مُسْتَوِيًا بِالْأَرْضِ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (دَكَّاءَ) مَمْدُودًا غَيْرَ مُنَوَّنٍ هَاهُنَا وَفِي سُورَةِ الْكَهْفِ، [وَافَقَ عَاصِمٌ فِي الْكَهْفِ] (٢) وَقَرَأَ الْآخَرُونَ (دَكَّا) مَقْصُورًا مُنَوَّنًا، فَمَنْ قَصْرَهُ فَمَعْنَاهُ جَعَلَهُ مَدْقُوقًا: وَالدَّكُّ وَالدَّقُّ وَاحِدٌ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ دَكَّهُ اللَّهُ دَكَّا، أَيْ: فَتَّتَهُ كَمَا قَالَ: (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) [الْفَجْرُ-٢١] ، وَمَنْ قَرَأَ بِالْمَدِّ أَيْ: جَعَلَهُ مُسْتَوِيًا أَرْضًا دَكَّاءَ.

وَقِيلَ: مَعْنَاهُ جَعَلَهُ مِثْلَ دَكَّاءَ وَهِيَ النَّاقَةُ الَّتِي لَا سَنَامَ لَهَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَعَلَهُ تُرَابًا. وَقَالَ سُفْيَانُ: سَاخَ الْجَبَلُ فِي الْأَرْضِ حَتَّى وَقَعَ فِي الْبَحْرِ فَهُوَ يَذْهَبُ فِيهِ. وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: صَارَ رَمْلًا هَائِلًا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: جَعَلَهُ دَكًّا أَيْ كَسْرًا جِبَالًا صِغَارًا.

ووقع في تعض التَّفَاسِيرِ: صَارَ لِعَظَمَتِهِ سِتَّةَ أَجْبُلٍ وَقَعَتْ ثَلَاثَةٌ بِالْمَدِينَةِ: أَحَدٌ وَوَرِقَانَ وَرَضْوَى، وَوَقَعَتْ ثَلَاثَةٌ بِمَكَّةَ ثَوْرٌ وَثَبِيرٌ وَحِرَاءٌ (٣) .

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحُسْنُ: مَغْشِيًّا عَلَيْهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَيِّتًا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: خَرَّ مُوسَى صَعِقًا يَوْمَ الْخَمِيسَ يَوْمَ عَرَفَةَ وَأُعْطِي التَّوْرَاةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَوْمَ النَّحْرِ.

قَالَ الْوَاقِدِيُّ: لَمَّا خَرَّ مُوسَى صَعِقًا قالت ملائكة السموات: مَا لِابْنِ عِمْرَانَ وَسُؤَالِ الرُّؤْيَةِ؟ وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ (٤) أن ملائكة السموات أَتَوْا مُوسَى وَهُوَ مَغْشِيٌّ عَلَيْهِ فَجَعَلُوا يَرْكَلُونَهُ بِأَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُونَ يَا


(١) أخرجه الترمذي في التفسير، سورة الأعراف: ٨ / ٤٥١-٤٥٢، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، ورواه أيضا من طريق عبد الوهاب الوراق وقال: هذا حديث حسن. وأخرجه الحاكم في المستدرك: ٢ / ٣٢٠-٣٢١.
(٢) ساقط من "ب".
(٣) هذه الرواية الطويلة عن ابن إسحاق ووهب، في تفسير الآيات من الروايات الإسرائيلية، وفيها كثير من الكلام المتهافت، وعلامات الاختلاق ظاهرة عليها. ونضع هنا كلمة الشيخ محمد أبو شهبة تعليقا على هذه الرواية بعد أن ساق رواية البغوي، قال رحمه الله: "وهذه المرويات وأمثالها، مما لا نشك أنها من إسرائيليات بني إسرائيل وكذبهم على الله، وعلى الأنبياء، وعلى الملائكة، فلا تلق إليه بالا. وليس تفسير الآية في حاجة إلى هذه المرويات. والآية ظاهرة واضحة، وليس فيها ما يدل على امتناع رؤية الله في الآخرة كما دل على ذلك القرآن الكريم والسنة الصحيحة المتواترة، وغاية ما تدل عليه: امتناع الرؤية البصرية في الدنيا، لأن العين الفانية لا تقدر أن ترى الذات الباقية. انظر: الإسرائيليات والموضوعات لأبي شهبة ص (٢٧٧-٢٨١) .
(٤) وهذه أيضا من الإسرائيليات المكذوبة، وهي تتفق مع طبيعة بني إسرائيل وموقفهم من الأنبياء وإطالة ألسنتهم بالسوء في حقهم، وتنقيصهم ما استطاعوا! وانظر: تفسير الآلوسي: ٩ / ٤٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>