وَإِسْحَاقُ وَدَاوُد وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَالُوا: عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ حَيْثُ كَانَ يَطُوفُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجْرِ انْتَهَى.
إذَا عُلِمَ ذَلِكَ فَاَلَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الطَّوَافُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحِجْرِ، وَلَا عَلَى جِدَارِهِ، وَذَلِكَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - عَلَى وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: أَنَّهُ قَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي الْحِجْرِ، فَقَالَ ابْنُ جَمَاعَةَ الشَّافِعِيُّ: قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ إنَّ الرِّوَايَاتِ اضْطَرَبَتْ فِي الْحِجْرِ فَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ مِنْ الْبَيْتِ، وَفِي رِوَايَةٍ سِتَّةُ أَذْرُعٍ مِنْ الْحِجْرِ، وَفِي أُخْرَى سِتٌّ أَوْ نَحْوُهَا، وَفِي رِوَايَةٍ خَمْسَةٌ وَيُرْوَى قَرِيبٌ مِنْ تِسْعٍ وَكُلُّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ فِي الصَّحِيحِ، فَإِذَا طَافَ فِي شَيْءِ مِنْ الْحِجْرِ يَكُونُ فِي شَكٍّ مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ فَلْيَطُفْ مِنْ وَرَاءِ الْحِجْرِ (الثَّانِي:) أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَافَ بِالْحِجْرِ، وَقَالَ «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» وَهَكَذَا فَعَلَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: وَذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُوبَ الطَّوَافِ مِنْ خَارِجِ الْحِجْرِ سَوَاءٌ كَانَ كُلُّهُ مِنْ الْبَيْتِ أَوْ بَعْضُهُ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ مِنْ الْبَيْتِ فَالْمُعْتَمَدُ فِي بَابِ الْحَجِّ الِاقْتِدَاءُ بِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَجَبَ الطَّوَافُ بِجَمِيعِهِ انْتَهَى.
(قُلْتُ:) وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَلَا يُعْتَدُّ بِمَا طَافَ دَاخِلَ الْحِجْرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شَامِلٌ لِسِتَّةِ أَذْرُعٍ، وَلِمَا زَادَ عَلَيْهَا، وَهُوَ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ أَصْحَابِنَا، كَمَا تَقَدَّمَ، وَاَلَّذِي قَالَهُ اللَّخْمِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّمَا هُوَ تَفَقُّهٌ مِنْهُ عَلَى عَادَتِهِ فِي اخْتِيَارِهِ لِمَا يَقْتَضِيهِ الدَّلِيلُ وَالْقِيَاسُ، وَإِنْ خَالَفَ الْمَنْصُوصَ عَنْ مَالِكٍ وَقَوْلُهُ: وَلَيْسَ بِحَسَنٍ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَبِمَا قَالَهُ اللَّخْمِيُّ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ مِنْهُمْ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَأَبُوهُ وَالْبَغَوِيُّ وَصَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ وَبِالْقَوْلِ الْآخَرِ قَالَ جَمَاهِيرُ الشَّافِعِيَّةِ قَالَ النَّوَوِيُّ، وَهُوَ الصَّوَابُ، وَاحْتَجَّ شَيْخُ شُيُوخِنَا الْقَاضِي تَقِيُّ الدِّينِ الْفَاسِيُّ الْمَالِكِيُّ فِي تَارِيخِ مَكَّةَ لِمَا قَالَهُ اللَّخْمِيُّ وَالرَّافِعِيُّ بِأَنَّ أَفْعَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَجِّ مِنْهَا مَا هُوَ وَاجِبٌ، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَطَوَافُهُ خَارِجَ الْحِجْرِ مَا يَكُونُ وَاجِبًا إلَّا بِدَلِيلٍ، وَلَا دَلِيلَ إلَّا مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ رِوَايَةِ عَائِشَةَ أَنَّ «الْحِجْرَ مِنْ الْبَيْتِ» ، وَهِيَ رِوَايَةٌ مُطْلَقَةٌ فَتُحْمَلُ عَلَى الرِّوَايَاتِ الْمُقَيَّدَةِ، وَيُحْمَلُ طَوَافُهُ خَارِجَ الْحِجْرِ لِيُزِيلَ عَنْ غَيْرِهِ مَشَقَّةَ الِاحْتِرَازِ عَنْ تَحْرِيرِ السِّتَّةِ أَذْرُعٍ وَنَحْوِهَا وَمَشَقَّةَ تَسَوُّرِ جِدَارِ الْحِجْرِ خُصُوصًا لِلنِّسَاءِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ يُقَالُ: فِي طَوَافِ الْخُلَفَاءِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ فَيَكُونُ الطَّوَافُ هَكَذَا مَطْلُوبًا مِنْهُ مُتَأَكَّدًا لَا وُجُوبًا لِعَدَمِ نُهُوضِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْوُجُوبِ مِنْ طَوَافِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنْ خَالَفَ إنْسَانٌ وَتَسَوَّرَ عَلَى جِدَارِ الْحِجْرِ فَطَافَ فِيمَا لَيْسَ مِنْ الْكَعْبَةِ خُصُوصًا عَلَى رِوَايَةِ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ فَفِي الْجَزْمِ بِفَسَادِ طَوَافِهِ نَظَرٌ كَبِيرٌ مِمَّا لَا يَنْهَضُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ انْتَهَى.
مُخْتَصَرًا وَآخِرُهُ بِاللَّفْظِ (قُلْتُ:) فِيمَا قَالَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نَظَرٌ؛ لِأَنَّ أَفْعَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَحْمُولَةٌ عَلَى الْوُجُوبِ حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى النَّدْبِ لَا سِيَّمَا فِي بَابِ الْحَجِّ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ فِي الطَّوَافِ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ جَابِر أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي آخِرِ حَجَّتِهِ «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» قَالَ أَصْحَابُنَا فِي الْحَدِيثِ دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ طَوَافَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَانٌ لِلطَّوَافِ الْمُجْمَلِ فِي الْقُرْآنِ الثَّانِي: قَوْلُهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِتَأْخُذُوا عَنِّي» يَقْتَضِي وُجُوبَ كُلِّ مَا فَعَلَهُ إلَّا مَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ انْتَهَى.
(قُلْتُ:) وَلَا سِيَّمَا فِي الطَّوَافِ الَّذِي ثَبَتَتْ فَرْضِيَّتُهُ بِالْقُرْآنِ مُجْمَلًا، وَلَمْ يُعْلَمْ بَيَانُهُ إلَّا مِنْ فِعْلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتُحْمَلُ أَفْعَالُهُ فِيهِ عَلَى الْوُجُوبِ إلَّا مَا دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ كَاسْتِلَامِ الْحَجَرِ وَالِاضْطِبَاعِ، وَقَدْ اسْتَدَلَّ أَئِمَّةُ مَذْهَبِنَا وَغَيْرُهُمْ عَلَى وُجُوبِ كَثِيرٍ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ بِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» إذَا عُلِمَ ذَلِكَ فَاَلَّذِي يَظْهَرُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - وُجُوبُ الطَّوَافِ مِنْ وَرَاءِ مِحْوَطِ الْحِجْرِ، وَإِنْ طَافَ دَاخِلَهُ يُعِيدُ طَوَافَهُ، وَلَوْ تَسَوَّرَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute