للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَسْتُورًا وَلَا يَمُدُّ أَحَدٌ إلَيْك لِبَاسًا فَأَفْتَوْهُ بِالْحِنْثِ إلَّا رَجُلًا مِنْهُمْ، قَالَ لَهُ: انْزِلْ بِاللَّيْلِ وَلَا حِنْثَ عَلَى الْحَالِفِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} [النبأ: ١٠] اهـ.

(قُلْت) وَهَذَا جَارٍ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْعِرَاقِ الَّذِينَ يُرَاعُونَ ظَوَاهِرَ الْأَلْفَاظِ لَا الْمَقَاصِدَ وَالْآتِي عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حِنْثُهُ إلَّا أَنْ يَدُلَّ سِيَاقٌ عَلَى مَا قَالَ: وَعَكْسُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا حَلَفَ أَنَّ الْحَجَّاجَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَاخْتُلِفَ فِيهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ أَفْتَاهُ بِعَدَمِ الْحِنْثِ، وَقَالَ: إنْ كَانَ هَذَا حَانِثًا فَجِنَايَتُهُ أَقَلُّ مِنْ جِنَايَةِ الْحَجَّاجِ وَمَعَ ذَلِكَ رُجِيَ لَهُ النَّجَاةُ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَقَدْ وَافَقَ وَنَزَلَتْ قَضِيَّةٌ وَهِيَ أَنَّ رَجُلًا حَلَفَ بِالثَّلَاثِ أَنَّ تَبَارَكَ الْمُلْكُ تُجَادِلُ عَنْهُ فَاسْتَفْتَى بَعْضَ أَصْحَابِنَا، فَقَالَ: تَطْلُقُ عَلَيْهِ لِأَنَّ هَذَا مَظْنُونٌ وَقُلْتُ أَنَا لَا حِنْثَ عَلَيْهِ لِوُجُوهٍ مِنْهَا أَنَّهُ حَلَفَ عَلَى أَنَّهَا تُجَادِلُ عَنْهُ وَهَذَا مِنْ الْعَمَلِيَّاتِ وَنَصَّ الْأُصُولِيُّونَ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِخَبَرِ الْآحَادِ قَطْعِيٌّ بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ صَحِيحٌ وَخَبَرُ الْآحَادِ مَظْنُونٌ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ وَمِنْهَا أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ ثَبَتَ فِي الْمُوَطَّإِ وَحَكَى فِي الْمَدَارِكِ عَنْ بَعْضِ عُدُولِ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ الْإِنْسَانُ أَنَّ كُلَّ مَا وَقَعَ فِي الْمُوَطَّإِ صَحِيحٌ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ وَمِنْهَا أَنَّ الْأَحْكَامَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى غَلَبَةِ الظُّنُونِ وَاحْتَجَّ مَنْ خَالَفَ بِأَنَّ مَنْ قَالَ: تُجَادِلُ عَنْ صَاحِبِهَا وَكَيْفَ يَعْرِفُ أَنَّهُ مِنْ أَصْحَابِهَا فَأَجَبْتُهُ إذَا ثَبَتَ لَهُ وَصْفُ الصُّحْبَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي أَصْحَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَكْمَلِ وُجُوهِ مَا قِيلَ فِيهَا مِنْ كَثْرَةِ الْمُلَازَمَةِ لِقِرَاءَتِهَا وَتَحْصِيلِ مَا أَوْجَبَ ثُلُوجَ صَدْرِهِ بِأَنَّهُ كَذَلِكَ وَهُوَ مُسْتَفْتٍ وَكَذَا وَقَعَ السُّؤَالُ هَلْ الْحَجَّاجُ أَعْظَمُ مَعْصِيَةً مِنْ الزَّمَخْشَرِيِّ أَوْ بِالْعَكْسِ فَوَقَعَ الْجَوَابُ أَنَّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ مَذْهَبَهُ يَقُودُ إلَى الْكُفْرِ فَهُوَ أَعْظَمُ وَإِنْ قُلْنَا يَقُودُ إلَى الْفِسْقِ فَيَقَعُ التَّرَدُّدُ فِي التَّرْجِيحِ لِأَنَّ مَعْصِيَةَ الزَّمَخْشَرِيِّ مِمَّا يَرْجِعُ إلَى الذَّاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَمَعْصِيَةَ الْحَجَّاجِ بِالْجَوَارِحِ لَكِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِحَقِّ الْمَخْلُوقِينَ وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ذَنْبٌ لَا يَتْرُكُهُ اللَّهُ وَهُوَ مَظَالِمُ الْعِبَادِ وَذَنْبٌ لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ وَهُوَ مَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ خَالِقِهِ وَذَنْبٌ لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ وَهُوَ الشِّرْكُ بِاَللَّهِ وَإِنْ كَانَ فِي صِحَّةِ هَذَا الْأَثَرِ مَقَالٌ ذَكَرَهُ عِزُّ الدِّينِ وَكَانَ يَتَقَدَّمُ التَّرْجِيحُ أَنَّ الْحَجَّاجَ أَعْظَمُ جُرْمًا لِأَنَّ أَفْعَالَهُ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ إيمَانِهِ مَعَ كَثْرَتِهِ وَجَرَاءَتِهِ عَلَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَخِيَرَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، انْتَهَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَمَا ذَكَرَهُ فِيمَنْ حَلَفَ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ذَكَرَهُ فِي الْعُتْبِيَّةِ فِي أَوَّلِ سَمَاعِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ بِالطَّلَاقِ وَنَصُّهُ، قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَأَخْبَرَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمِصْرِيِّينَ أَنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ عَنْ رَجُلٍ، قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ يَكُنْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا حِنْثَ عَلَيْهِ وَأَخْبَرَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي أَبِي بَكْرٍ مِثْلَ ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ الصَّلْتِ: وَسَمِعْتُ ابْنَ الْقَاسِمِ يَقُولُ فِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِثْلَ ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: أَمَّا مَنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلَا ارْتِيَابَ فِي أَنَّهُ لَا حِنْثَ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي سَائِرِ الْعَشَرَةِ أَصْحَابِ حِرَاءَ الَّذِينَ شَهِدَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجَنَّةِ وَكَذَلِكَ مَنْ جَاءَ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِالْجَنَّةِ وَأَمَّا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَتَوَقَّفَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَحْنِيثِ مَنْ حَلَفَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَقَالَ: هُوَ إمَامُ هُدًى وَهُوَ رَجُلٌ صَالِحٌ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ يَقْطَعُ الْعُذْرَ وَوَجْهُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ الْقَاسِمِ التَّعَلُّقُ بِظَاهِرِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قَوْلِهِ «إذَا أَرَدْتُمْ أَنْ تَعْلَمُوا مَا لِلْعَبْدِ عِنْدَ رَبِّهِ فَانْظُرُوا مَاذَا يَتْبَعُهُ مِنْ حُسْنِ الثَّنَاءِ» وَقَوْلِهِ «أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ بِخَيْرٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ بِشَرٍّ وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ» وَقَدْ حَصَلَ الْإِجْمَاعُ مِنْ الْأُمَّةِ عَلَى حُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالْإِجْمَاعُ مَعْصُومٌ لِقَوْلِهِ «لَمْ تَجْتَمِعْ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ»

<<  <  ج: ص:  >  >>