غَيْرِ تَأْوِيلٍ وَلَا عُذْرٍ انْتَهَى.
وَفِي النَّوَادِرِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ شُهُودُ الْجُمُعَةِ فَرِيضَةٌ وَمَنْ تَرَكَهَا مِرَارًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ انْتَهَى.
وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ حَكَى فِي تَرْكِهَا الْقَتْلَ وَسَمِعْت أَنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلًا ضَعِيفًا فِي قَتْلِهِ وَأَمَّا الْمُعَاقَبَةُ فَمِنْ الْمُقَرَّرِ أَنَّ الْإِمَامَ يُعَزِّرُهُ لِمَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ الشُّرْبِ وَرَأَيْت فِي نَوَازِلِ سَحْنُونٍ مِنْ كِتَابِ الشَّهَادَاتِ مَا نَصُّهُ: قَالَ سَحْنُونٌ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ فِي تَارِكِ الْجُمُعَةِ بِقَرْيَةٍ يُجْمَعُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ وَلَا مَرَضٍ قَالَ: لَا أَرَى أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ قَالَ سَحْنُونٌ إذَا تَرَكَهَا ثَلَاثًا مُتَوَالِيَاتٍ لِلْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ قَالَ أَصْبَغُ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الَّذِي يَتْرُك الْجُمُعَةَ نَرَى أَنْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ إلَّا أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ لَهُ عُذْرًا وَيُسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ وَيُكْشَفُ فَإِنْ عُلِمَ لَهُ عُذْرٌ مِنْ وَجَعٍ أَوْ أَمْرٍ أَوْ اخْتِفَاءٍ مِنْ دَيْنٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَأَرَى أَنْ لَا تُرَدَّ شَهَادَتُهُ وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ رَأَيْت أَنْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا يُتَّهَمُ عَلَى الدِّينِ وَلَا عَلَى الْجُمُعَةِ لِبُرُوزِهِ فِي الصَّلَاحِ وَعِلْمِهِ فَهُوَ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ.
قَالَ أَصْبَغُ وَالْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ إذَا تَرَكَهَا مُتَعَمِّدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ تَهَاوُنًا بِهَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ وَلَا يُنْظَرُ بِهَا ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْفَرِيضَةِ مَرَّةً وَثَلَاثًا وَأَقَلَّ وَأَكْثَرَ سَوَاءٌ هِيَ فَرِيضَةٌ مَفْرُوضَةٌ مُفْتَرَضٌ إتْيَانُهَا كَفَرِيضَةِ الصَّلَاةِ لِوَقْتِهَا فَلَوْ تَرَكَ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا مُتَعَمِّدًا مَرَّةً وَاحِدَةً لَمْ يُنْتَظَرْ بِهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ التَّارِكِ أَصْلًا لِلْأَبَدِ؛ لِأَنَّهُ عَاصٍ لِلَّهِ فِي قَلِيلِ فِعْلِهِ دُونَ كَثِيرِهِ وَمُتَعَدٍّ لِحُدُودِهِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} [النساء: ١٤] وَاَلَّذِي قِيلَ فِيمَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ ثَلَاثًا: طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ إنَّمَا هُوَ فِي الْإِثْمِ وَالنِّفَاقِ وَيُنْتَظَرُ فِي الثَّالِثَةِ التَّوْبَةُ فَإِنْ فَعَلَ وَإِلَّا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي التَّرْكِ لَهُ عَمَلًا وَلَا فِي إبْطَالِ شَهَادَتِهِ لَا بَلْ تُطْرَحُ شَهَادَتُهُ وَيُوقَفُ وَيُعَاقَبُ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَقَدْ بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ الْأُمَرَاءِ مِمَّنْ مَضَى مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ إذَا فَرَغَ مِنْ الْجُمُعَةِ أَنَّ مَنْ وُجِدَ لَمْ يَشْهَدْ الْجُمُعَةَ رُبِطَ فِي عَمُودٍ وَعُوقِبَ وَأُرَاهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ رُشْدٍ قَوْلُ سَحْنُونٍ: إنَّ شَهَادَةَ التَّارِكِ بِقَرْيَةٍ تُجْمَعُ فِيهَا الْجُمُعَةُ لَا تُرَدُّ إلَّا أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا مُتَوَالِيَاتٍ أَظْهَرُ مِمَّا ذَهَبَ إلَيْهِ أَصْبَغُ مِنْ أَنَّهَا تُرَدُّ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ وَمَعْنَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ سَحْنُونٌ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُعْلَمُ لَهُ فِي ذَلِكَ عُذْرٌ وَلَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا بِالصَّلَاحِ وَالْفَضْلِ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُعْلَمْ بِالصَّلَاحِ وَالْفَضْلِ إذَا تَرَكَ الْجُمُعَةَ ثَلَاثًا مُتَوَالِيَاتٍ لَا يُصَدَّقُ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ الْعُذْرِ بِخِلَافِ مَنْ عُلِمَ بِالصَّلَاحِ وَالْفَضْلِ وَلَيْسَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَسَحْنُون مُخَالِفًا لِقَوْلِ ابْنِ وَهْبٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّ قَوْلَ سَحْنُونٍ أَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ أَصْبَغَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَسْلَمُ مِنْ مُوَاقَعَةِ الذُّنُوبِ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ لَا يُجْرَحَ الشَّاهِدُ الْعَدْلُ بِمَا دُونَ الْكَبَائِرِ مِنْ الذُّنُوبِ الَّتِي يُقَالُ فِيهَا صَغَائِرُ بِإِضَافَتِهَا إلَى الْكَبَائِرِ إلَّا أَنْ يُكْثِرَ مِنْهَا فَيُعْلَمُ أَنَّ غَيْرَ الصَّغَائِرِ لَا تُخْرِجُ الْعَدْلَ عَنْ عَدَالَتِهِ غَيْرَ أَنَّهُ مُتَهَاوِنٌ بِهَا وَغَيْرَ مُتَوَقٍّ مِنْهَا؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ حَدِّ الْعَدَالَةِ وَلِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ ثَلَاثًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلَا عِلَّةٍ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ بِطَابَعِ النِّفَاقِ» دَلَّ عَلَى أَنَّ مَا دُونَ الثَّلَاثِ بِخِلَافِ ذَلِكَ فِي عِظَمِ الْإِثْمِ وَكَثْرَةِ الْوَعِيدِ فَوَجَبَ أَنْ يُلْحَقَ ذَلِكَ بِالصَّغَائِرِ وَلَا تُرَدُّ شَهَادَةُ مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ مَرَّةً وَاحِدَةً اشْتِغَالًا بِمَا سِوَاهَا مِنْ أَمْرِ دُنْيَاهُ حَتَّى يَفْعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا مُتَوَالِيَاتٍ فَيَتَبَيَّنُ بِذَلِكَ أَنَّهُ مُتَهَاوِنٌ بِدِينِهِ غَيْرُ مُتَوَقٍّ فِيهِ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي تَارِكِ صَلَاةٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا بِغَيْرِ عُذْرٍ فَلَا يَجِبُ أَنْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ حَتَّى يَكْثُرَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ وَاحْتِجَاجُ أَصْبَغَ لِرَدِّ شَهَادَتِهِ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ} [النساء: ١٤] الْآيَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ بِتَرْكِ الْإِيمَانِ وَتَعَدَّى حُدُودَ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الْخُلُودَ فِي النَّارِ إنَّمَا هُوَ مِنْ صِفَةِ الْكُفَّارِ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ انْتَهَى.
وَنَقَلَهُ ابْنُ عَرَفَةَ وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ أَصْبَغَ شَبَّهَ تَرْكَ الْجُمُعَةِ بِمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ حَتَّى يَخْرُجَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute