للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحق والباطل أو المحمود والمذموم، وكل القيم المعيارية، إلا أنها مع كل هذه الدعوى العلمية تعاني من ثمار هذه الدعوى؛ حيث إنها لم تستطع تقليد العلوم الطبيعية من جهة، ولم تنجح في معالجة بابها من جهة أخرى، فقد أُبرزت هذه الدعوى على أنها البديل العلمي لقضايا الإنسان العملية، وهي القضايا التي كانت ضمن الشريعة في الغالب، ولكن الدراسات النقدية تظهر كل وقت لتعترف بأزمة العلوم الاجتماعية حتى في الأبواب الاجتماعية المحسوسة (١)، وقد تظهر في القضية الواحدة نظريات شتى متعارضة ومتناقضة ومدارس يخطئ بعضها بعضًا، مما يبعدها عن مسمى العلم؛ لأن الأصل في العلم أن يكون ذا أصول يقبلها أغلب الناس، فكيف يصح وهم أنفسهم -أهل العلوم- يخطئ بعضهم بعضًا، ومع ذلك فيبقى المجتمع الذي لم يعرف الدين أو عرفه بصورة محرّفة مضطرًا لهذه الأبواب من العلوم النفسية والاجتماعية معتمدين في ذلك على عقولهم وتجاربهم، أما الأمة المسلمة فهي -وإن اهتمت بالإنسان والمجتمع وبكل ما يرتبط بهما بأسلوب العلوم الحديثة- تتميز بوجود مصدر تنطلق منه في البحث وترجع إليه لتصويب النتائج، وإن إسلامية المعرفة لا تعني رفض المعارف البشرية، وإنما تعني أخذ الصحيح النافع منها بصورة تختلف عن مجرد النسخ والتقليد.

وقد جاءت هذه الدعوى لعلمية الأبواب العملية من حياة الإنسان من التأثر بالجانب الدنيوي المعاش العملي التطبيقي في المدنية الغربية، فقد وجد المتغرب - مثلًا- أن خلف هذه المدنية تطورًا علميًا وروحًا علمية في الجامعات والأكاديميات والمكتبات والمعامل والمختبرات و. . . .، إنه توظيف للعقل بشكل مدهش، ولكن لم ينتبه هؤلاء أنه عقل مشغول بدنياه، صنع وسائل استرقاقه من الأدوات والتقنيات، وبعد أن كان أمل العقلانية العلمانية السيطرة على الطبيعة وتسخيرها للإنسان انقلب الوضع عليهم، وأصبحت هذه الدنيا المعقلنة تسيطر عليهم بما اختُرع من أدوات وتقنيات (٢)، وقد أطلق بعض النقاد على هذا العقل


(١) انظر: أمثلة من ذلك في المبحثين الثاني والثالث، من الفصل الثاني، من الباب الثالث، وانظر: مشكلة العلوم الإنسانية. . . .، د. يمنى الخولي، مع محاولتها حل المشكلة، ويمكن أن تكون الحلول ذات جدوى إذا أبقيت في الجانب المحسوس وتركت غيره للدين.
(٢) انظر: سؤال الأخلاق. . . .، طه عبد الرحمن ص ٦٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>