للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المجالات الدينية أو العقلية، فكل ما لا يُحسّ من العبارات يُعدّ خاليًا من المعنى، فمعيار علمية العبارة هو الإحساس بها، وإلا فهي غير علمية؛ أي: خالية من المعنى، ومع صراحته في الحسية فهو يرفض أي مصدر غير الحس بما في ذلك الدين، إما بالسكوت أو بإهمال الكلام عنه، هناك امتناع عن الذهاب للدين كمصدر يضفي المعنى والقيمة والقبول لتلك العبارات. وهذا الطريق يغلب على المتأثرين بالوضعية عمومًا، حيث ربطت العلمية بالحسية وجعلت مقياس العبارات العلمية هو الحسية، وذلك بسبب ما رأوه من نجاح المنهج التجريبي الحسي وقيام نهضة علمية مادية حسية عليه، فعمم ذلك حتى على غير الماديات.

وليست المسألة في صواب استدلالاته اللاحقة، فهي قد تصح لمن سلّم له بأصل منطلقه القائم على عدم وجود مصدر غير الحس لمعرفة المعاني وصحتها ونفعها، ولذا فالأصل إيقافه في أول الطريق قبل أن يُركبنا معه قطاره ويسير بنا في سكة ذات مسار واحد لا تسمح إلا بقطار واحد، فنقف أول الطريق ونبين أن القيم والأخلاق تجد ما يرفعها من مجال الانطباعات الذاتية والأحكام النسبية بواسطة مصدر آخر غير الحس، وهو عندنا الوحي.

من بين ما يقدمه من استدلالات لإثبات دعواه: تمييزه بين عملين للغة، أحدهما تعبيري منصرف إلى إخراج ما يشعر به القائل داخل نفسه، كشعور ذاتي خاص به، والثاني تصويري يصف شيئًا خارج ذات القائل، فالمعيار في الثاني الحس وتكون بذلك علمية إن صدقها الحس، بخلاف الأولى التي لا مقياس لها، وهو يرى تبعًا لطائفة من الأخلاقيين أن العبارات الأخلاقية هي من النوع الأول، ولذا فهي ليست مما يصلح للمجال العلمي (١)، فهذا الاستدلال إنما يستقيم مع من يسلم له بعدم وجود مصدر آخر للمعرفة، أعلى وأوثق وهو الوحي، على أن هؤلاء لا يعترفون حتى باستدلالات العقل الصحيحة ما لم يصدقها الحس، وهم حتى في جانب الاستدلالات الفلسفية لاسيّما في مجال معيارهم المشهور معيار القابلية للتصديق قد تلقوا نقدًا من مدارس فلسفية تهتم بفلسفة العلم كاهتمام الوضعيين، فلم يتقبلوا هذا المعيار الذي أتت به المنطقية، وبيّنوا حتى في دائرة البحث المنهجي: حدوده وأهمية


(١) انظر: موقف من الميتافيزيقا ص ١١٢ - ١١٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>