وشموليته وتوازنه من جهة كونه فتح الباب ودفع بالأمة نحو العلم، كما أنه جعل ذلك التكامل بين الديني والدنيوي. ونصل من كل ما سبق إلى أن من فحص حقيقة العلمانية في الغرب يجد أن دورها في خدمة العلم إن ثبت فمحدود بالدنيوي، ومع ما فيها من محاسن فتلك المحاسن لم تكن مجهولة في الدين الحق، ويفْضل الدين الحق بقدرته على معالجة مشكلات العلم وإعطائه منظومة من القيم فضلًا عن دور الغائية الدينية في وزن بوصلة العلم.
تعد العلمانية جهدًا لتقليص حجم مساحة الدين في حياة الناس، ولكن الحياة بعد ذلك تبقى مفتوحة للآراء والأهواء، آراء العقول وأهواء النفوس وميولها، فتدار الحياة بعقول متناقضة وبأهواء متصارعة، فلا يوجد عقل واحد ولا توجد رغبة واحدة، العقول محكومة بحدودها وإمكانياتها، والأهواء محكومة بتمايزات أصحابها بين الغنى والفقر أو القوة والضعف، فليس هناك هوى واحد كما أنه ليس هناك عقل واحد، قد يمكن الوصول لقواسم مشتركة توفرها عقلية متبعة من العقليات وتلم أهواءَها المتناثرة مصلحة، ولكنها عقلًا وتاريخًا لا تكفي، فهي في حاجة لمرجعية عليا تنير العقل وتهذب الرغبة، وليس إلا الدين الحق يحقق ذلك.
الدين الحق على العكس من العلمانية، يجمع بين الدين والدنيا، وبين الأولى والآخرة، فهو لا يقلص الدنيا، وإنما يرعاها ويضعها في وضعها الحقيقي، بخلاف المعادلات الخاطئة التي عرفها الغرب الوسيط والحديث، ففي الوسيط أهملوا الدنيا حتى فسدت أحوال الناس فهلكوا بحجة الاكتفاء بالدين، وفي الحديث أهملوا الدين حتى فسدت حياة الناس فهلكت أرواحهم بحجة الاكتفاء بالدنيا، ويشترك الدين الباطل مع العلمانية الخبيثة في إفساد دين الناس ودنياهم، فالدين الباطل مثله مثل العلمانية الخبيثة في الأثر الخطير على البشر، فالأديان المبدلة أو المخترعة تفسد دنيا الناس ودينهم، ولذا يجد دعاة العلمنة راحة مؤقتة عند تحييد الدين وعزله، ويجدون تقدمًا دنيويًا يغرهم ويفتنهم، ولكنه يجلب معه معاناة بسبب غياب المعنى الكلي والهدف من الحياة والإجابات الحقيقية عن الرب سبحانه وعلاقة الوجود به، وعن الإنسان: أصله ومصيره، وعن الكون وموجده وغايته.
نختم هذه الوقفة بطبيعة ظهور مجال علمنة العلم، فكما أنه ظهر في ظروف