بحسب هذا التصور قامت العلمانية أولًا بتفريغ العلم من كل صلة بالدين ومفاهيمه، ثم وضعت تصورًا جديدًا ورؤية جديدة لا تسمح بدخول أي مفهوم ديني، حتى وإن كان هو المفهوم الصحيح أو المناسب، وقد يعترف بعضهم بخطل قوله، ولكن إن لم يقل به، فالمصير هو الاعتراف بالدين، فالعلماني يعيش رؤية مفادها أن العالم كون مغلق مكتفٍ بقوانينه مستقل، وأن الإنسان مستقل بعقله لا حاجة له إلى شيء خارج عنه، منفصل عن الرب وعن الآخرة، وهما ركنان مهمان في الدين يتجاهلهما العلماني، فتجده في تفسيراته العلمية منفصلًا عن الرب سبحانه، وفي غاياتها منفصلًا عن الآخرة، والمقصود هنا أثر الإيمان بهذين الركنين على مسيرة العلم، وليس المقصود أن نأتي بذكرهما لإثبات تفاصيل العلوم الرياضية والفيزيائية والكيميائية، وإنما المقصود الابتعاد عن التصور العلماني القائم على الاعتقاد بكون مستقل مستغنٍ عن موجده، وقد عرف حسين أمين العلمانية بأنها:"محاولة في سبيل الاستقلال ببعض مجالات المعرفة عن عالم ما وراء الطبيعة، وعن المسلمات الغيبية"(١).
والمسلم يرفض هذه الرؤية حتى مع من لم يقتنع بعمومها، فهي من جهة منفصلة عن الإيمان بالله وما يلزم ذلك من لوازم، وهي من جهة أخرى تُهمل الحياة الأخروية، وهما من أخطر ما وقعت فيه علمانية العلم. يقوم التصور الإِسلامي على ربط هذا الوجود بخالقه، على الإيمان بربوبية الرب سبحانه ومقتضيات ذلك الإيمان من تدبيره سبحانه لأمر العالم، كما يقوم على الإيمان بألوهيته سبحانه ومقتضيات ذلك من عبودية، كما يقوم على ربط هذا العالم بمستقبله الحقيقي وهو اليوم الآخر، ومقتضيات ذلك، وهذا عكس الرؤية العلمانية التي تفصل العالم عن خالقه كما تفصلهم عن مستقبلهم الحقيقي.
يتضح خطر فصل العلم عن الله، الخالق المدبر العليم الحكيم، في العلوم الطبيعية ونظرياتها، كما يتضح خطر فصل العلم عن الآخرة في العلوم الاجتماعية والإنسانية ونظرياتها؛ فوجود الكون والحياة والإنسان وسير العالم غير مرتبط عندهم بالرب سبحانه، هناك فصل حاد وهو أشد مع الماديين منهم، كما أن
(١) نقلًا عن العلمانية تحت المجهر، د. عبد الوهاب المسيري ص ٦٤.