بالتباسها سرى تأثيرها وأدّت وظيفتها المبتغاة؛ ذلك أن التحليل لدعوى المتغربين حول التعارض لا يجدها نتيجة أزمة روحية للباحث أو معرفية، وإنما يصل إلى أنها أداة تُرفع لمآرب أخرى. فقد يوجد فيهم من يلتبس عليه الحق ويظن بأن هناك تعارضًا بين الدين والعلم، ويُصدّق بدعاوى المبطلين ويسير في ركابها، إلا أن مجموعة من المتغربين هم منخرطون في تيارات فكرية علمانية معادية للدين، ويفرحون بأية أداة أو فكرة أو مفهوم أو دعوى ضد الدين، ولا أفضل عندهم من استخدام العلم الحديث، وهنا الفرق بين الأزمة الروحية والفعل الأيدلوجي. فإذا كانت الدعوى لم تخرج -أو لم يُرَد لها أن تخرج- في صياغة دقيقة وواضحة، فلابد لنا من التحليل لهذه الدعوى، فالنقد التحليلي هو الأنسب لمثل هذا النوع من الأمور الملتبسة، وهو الذي يكشف في النهاية حقيقة الدعوى فيوصلنا إلى ما يمكن وضعه في باب التعارض وما لا يمكن، ثم رفع الإشكال وكشف الخطأ أو الهوى.
عُرفت دعوى التعارض بين العلم داخل أوروبا، واشتهرت بعد الصراع الكبير الذي تولّد عن إعلان نظرية الفلك الحديثة، ثم تحولت الدعوى إلى ما هو أوسع مع بروز تيارات فكرية علمانية، ولاسيّما الوضعي منها والمادي، وفي تلك الخصومة وفي ذروتها جاء احتكاك المسلمين بهم، فنقلها طائفة صغيرة إلى الصحافة وتركّز الأمر على بعض النظريات، الفلك والتطور، وكان الأمر أخف حتى جاء الاستعمار البغيض للعالم الإسلامي، فنشأت في ظلّه تيارات فكرية علمانية كان أشدّها إلحادًا تلك التيارات اليسارية التي انقلبت مع ضعف الاتحاد السوفيتي سابقًا إلى تيارات حداثية أو ليبرالية، فكانت الدعوى أوسع من التحرك في مجال العلوم البحتة بل كانت على مستوى المذاهب الفكرية، فإذا حللنا هذه الدعوى -وهو تحليل يعتمد على النظر في تشكلها لأكثر من مئة عام- يمكننا إعادتها إلى الصور الآتية:
١ - دعوى التعارض بين موضوعات دينية وموضوعات علمية.
٢ - دعوى التعارض على مستوى الإطار العام: الديني والعلمي.
٣ - دعوى التعارض على مستوى المنهج بين الدين والعلم.
٤ - دعوى التعارض على مستوى الأمر الشرعي والنشاط العلمي.