وقد يسّر الله سبحانه للبشر اكتشاف أجهزة تسهم في رؤية ما يصعب رؤيته مما سبق، وكان أولها اكتشاف المقرّب "التلسكوب"، وباكتشافه قفز علم الفلك قفزة كبيرة، ولحقه اكتشاف المجهر الذي يكبر ما لا تراه العين المجردة حتى تراه بوضوح، وأخيرًا اكتشاف الأشعة التي تتخلل الحواجز، وتتجاوزها لتظهر المخفي خلفها أو بداخلها، وما زالت هذه الأنواع الثلاثة في تطور مستمر، وكان أثرها في تقدم العلم كبيرًا.
وهذه ميزة ميّزت العلوم المادية في العصر الحديث، وهي ارتباطها بالأجهزة، وكلما كان العلم قادرًا على صنع أجهزته كان تطوره وتقدمه ودقته أسرع وأفضل، ومن أهمها الأجهزة التي تساعد العين في رؤية ما لم تكن تستطيع رؤيته، والعين هي إحدى وسائل ووسائط التعلم، وبقوتها ودعمها تزداد إمكانية التعلم والتحقق.
وإذا عدنا إلى أجواء أوروبا في قرنها السادس عشر بعد إحراق برونو وإدانة غيره، وحاجة الكنيسة وأصحاب النظرية الأرسطية إلى منُقذ لها من المأزق الذي هي فيه، ومع قوانين كبلر وكتاباته، ومع الحديث الدائر في أوساط المجتمع المختلفة، وحاجة الفلكيين أيضًا إلى الدعم الإضافي للخروج من هذا الصراع ومن المسبّة التي ألحقتها بهم الكنيسة وأصحاب أرسطو، في هذه الأجواء يُيسر الله سبحانه لأحد الناس اكتشاف المقرب "التلسكوب" من شخص ليس له علاقة بكل هؤلاء، ولا علاقة له بكل هذه الأحداث.
وما من شك بأنه في فترات زمنية مختلفة كان هناك من تمنى لو يرى الأشياء البعيدة على الأرض أو في السماء ولكن لم يصل أحد إلى حلّ لهذه الأمنية، وفي هولندا وبطريقة غامضة توصل أحد الصُنّاع إلى اكتشافه، وكان صانعًا للنظارات (١).
وبدأ الناس يتداولون هذا الجهاز الغريب بإعجاب كبير، فها هو يقرب البعيد على هذه الأرض، ويقرب بعض ما نراه في السماء، وبدا الآن ممكنًا دخول جهازٍ مادي ليفك هذا الصراع الدموي والحدث الكبير الذي دام أكثر من مئة سنة وذهب ضحيته العديد من الناس، وكان أشهر من استخدمه العالم الإيطالي جاليليو.
(١) انظر: العلم في التاريخ ٢/ ٦٧، وتاريخ الفلسفة الغربية (الحديثة) ٣/ ٦٩.