للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ما لم ينكره السابقون؛ بل قيام بعض المتأخرين منهم بالدعوة إلى الإلحاد تحت مظلة العلم مع نهايات القرن الثامن عشر الميلادي، وغلب ذلك على علماء القرن التاسع عشر (١٢ - ١٣ هـ) وما بعده.

وهنا يظهر فرق مهم بين نيوتن ومن قبله من علماء أوروبا وبين العلماء الذين أتوا بعده حول قضية النظريات والقوانين والتفسيرات العلمية، فبينما كان الأمر عندهم يقف عند حدّ الاكتفاء بحدود ما يمكن التأكد منه بالملاحظة والتجربة، نجده عند اللاحقين لا يقف عند هذا الحدّ بل يضاف إلى ذلك منع التفسيرات الأخرى وتجريمها؛ لأنها ميتافيزيقية غيبية. وكان ممكنًا التفريق بين النظريات والتفسيرات التي مصدرها البشر، فهنا يُطالبون بالدليل والبرهان، قال -تعالى-: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: ١١١]، وبين تفسيرات لها بعض الدلائل في الوحي، فهذه الأخيرة إذا صحت وكان معناها صريحًا كَفت في الموضوع، ولا يمنع ذلك وجود أسباب طبيعية لتلك الظواهر أوجدها الرب سبحانه في مخلوقاته. فلو فسر مجموعة من العلماء طريقة سقوط المطر طُولبوا بأدلتهم وبراهينهم، وإن جاء من يخبرنا بأن الله هو الذي ينزل المطر وأن ذلك من فضله وكرمه على البشر والكائنات الحية وجب قبوله ما دام ذلك واردًا في الوحي، أو أثبت بالوحي أن لله سبحانه ملائكة مخصصة بالمطر وجب قبوله، وهذا المعتقد لا يمنع وجود الأسباب المادية التي يلاحظها العلماء في دورة الماء ويعبرون عنها بمعادلات وقوانين؛ فإن الله سبحانه قد جعل لكل شيء سببًا، عرفه من عرفه وجهله من جهله، والسبب الذي نراه ونلاحظه لا يكفي لوحده، وإلا لاعترض معترض فقال: لماذا هذا المطر جاء بهذه الكمية فقط، في هذا المكان بعينه، في هذا الوقت بعينه، بهذه الصور المعينة؟ فهذا السؤال لا يستطيعون الإجابة عليه بما يذكرونه من تفسيرات ونظريات. ولو كابر مكابر كما فعل "لابلاس" (١) وقال: إن لذلك قانونًا معينًا لو كشفته لأخبرتك أنه سينزل هنا بهذه الكمية، فإنه سيقال له أيضًا: ولماذا كان هذا القانون بهذه الصورة؟

فهذا المثال يوضح الفرق بين موقف نيوتن، ومن قبله من العلماء، وهو


(١) انظر كلامه في: الفيزياء والفلسفة، جينز ص ١٥١، وانظر: مقدمة في علم الاستغراب، حسن حنفي ص ٢٢١.

<<  <  ج: ص:  >  >>