للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لكون منتظم. وقد وجد عدد من العباقرة كـ"باسكال ولايبنتز" نظرية ديكارت تلك بأنها تبعث على القلق وعدم الارتياح. وهنا نستذكر الانسحاب الشهير لباسكال وتراجعه إلى الدين الصوفي، مرعوبًا من آلة الكون التي لا إله لها كما يزعمون. . . ." (١).

فما الفرق بين التصورين الديكارتي والنيوتني؟ يرى "ديكارت" بأن الله أوجد الكون وفق آلية ثم تركه لوحده، مع بقائه ضامنًا لانتظامه، أما نيوتن فأضاف بأن الرب سبحانه له فعل في الكون حصره في تصحيح أخطائه أو تجديد ما ينقص منه، وكلاهما يحويان انتقاصًا كبيرًا من ربوبية الرب سبحانه، فنيوتن وإن أثبت شيئًا من دوام فعله سبحانه وربوبيته فهو إثبات ناقص، إلا أنه أحسن حالًا من تعطيل الرب في التصور الديكارتي. وهذا الباب عمومًا عند أهل الإسلام، ولاسيّما أهل السنة مما لا يُقال فيه بالظن والتخمين أو سدّ الفراغات، وإنما يرجع فيه إلى كلام الله سبحانه عن نفسه وعن أفعاله وعن أسمائه وصفاته وعن رعايته لخلقه وتدبيره للعالم سبحانه. وهؤلاء عندما تركوا الباب لعقولهم عندها قام كل واحد يقترح العمل المناسب للرب سبحانه -تعالى الله عن ذلك- أو يقترح الحدود التي يراها للخالق في خلقه، فمن هو حتى تكون له هذه الوظيفة؟!

وبسبب ذلك نجد مثل هذا الاختلاف الكبير فيما بينهم، وربما بسببه أيضًا ما وجده من ينتسبون للمذاهب الإلحادية من فرصة في عدم الاعتراف بالرب أصلًا. وواضح من الاختلاف السابق بأن العلم الحديث في صورته الديكارتية والنيوتنية قد إنطلق في تصوره للرب سبحانه انطلاقة ناقصة ومنحرفة، ولا تقوم على أرض مستقرة. وإذا كان الفكر الغربي الوسيط وبداية الحديث يقوم أساسًا على الإقرار بالربوبية -فيثبتون وجود الرب سبحانه والانطلاق من ذلك إلى بيان ما يجوز في حقه وما يمتنع من صفات أو أفعال أو علاقة بمخلوقاته- وهي ما بقي معهم رغم صور الانحراف التي فيها، وأقصى ما فيها إثبات توحيد الربوبية، ورغم ذلك يولد مشوهًا مع صُنّاع العلم الحديث. فآلة العالم الآلية -الميكانيكية- التي تصورها ديكارت ونيوتن وغيرهما فتحت الباب للانتقاص من هذا المعتقد


(١) المرجع السابق ص ٨٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>