الديني رغم ما فيه من تحريف وأخطاء حتى وإن قابلته حقائق علمية قوية، والثاني: تيار يميل إلى الرأي الإلحادي ويوجه النظريات العلمية إلى أهدافه حتى وإن قابلته حقائق دينية قطعية، الثالث: تيار معتدل يرى بأن للدين حقائق وللعلم حقائق، وللدين مجال وللعلم مجال، ثم هم مدارس شتى في كيفية وضع العلاقة بينهما، وماذا يُقدّم عند التعارض، وكيف يتم الجمع بين الأمور المتعارضة؟ وكون التيارات العلمانية والمادية هي الأقوى في الغرب في القرن الرابع عشر الهجري/ العشرين الميلادي، فدون أدنى شك بأنهم سينتصرون لمذهبهم وسيوجهون كل النظريات لخدمة منهجهم.
هكذا يتضح بأن مشكلة العلاقة بين النظريات العلمية الممثلة للعلم وبين الدين في صورته اللاهوتية النصرانية المحرفة قد وجدت حلّها مع تركيبة نيوتن وتوفيقيته، فمنذ إثارتها مع النظرية الفلكية وهي مدار صراع هائل حتى وجدت بعض ما يهدئها ويضعها في صورة وفاق بدل العداء مع نيوتن وعصره (١)، ويظهر بأن أغلب الطرفين قد رضيا بهذا التوفيق، وإن كان من الواضح بأن الجهود التوفيقية ومحاولات التقريب غالبًا ما انطلقت من العلماء لا من رجال الكنيسة، وبعيدًا عن مدى صدق العلماء أو كذبهم، فالمهم بأن جهدهم قد نجح زمن "نيوتن" في تخفيف القطيعة، وكان لنيوتن كما كان لجاليليو قبله دراسات مختلفة لتأويل نصوص أو عقائد دينية لتتوافق مع النظريات والرؤى العلمية. ولكن سيظهر بأن عمليات التوفيق سيوقفها أحد علماء أوروبا في نهاية القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، وذلك لصراحة ما قدّمه في مخالفة الأديان ورفضه لأي توفيق مع الدين، وأيضًا لمنحى الرجل الفكري المنتمي إلى العلمانية والمادية، وهما أسوأ ما أنتجه الفكر الغربي من مذاهب معادية للدين.
يكشف هذا العرض التاريخي بأن توتر العلاقة بين الدين والعلم إنما هي مشكلة أوروبية ظهرت بسبب بروز النظريات العلمية الجديدة المتعارضة مع اللاهوت الديني المعروف في الغرب، ويكشف بأن ظهور أحد الطرفين على الآخر يرتبط بالقوة السياسية والثقل الاجتماعي لأحدهما على حساب الآخر وأنه لا يرتبط بحقائق موضوعية صحيحة تفرض نفسها، ويكشف أخيرًا بأن جميع
(١) انظر: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، رونالد ص ٨٥.