غيره مطلقًا دون قيد أو شرط، ولا يصلح لأن يكون مقياسًا للصواب لوحده أو معيارًا للحقائق.
ومن بين أهم المشاكل المنهجية والإبستمولوجية المثارة بسبب تنوع المذاهب العلمية داخل مدرسة الكم أو ميكانيكا الكم مشكلة الحقيقة الفيزيائية (١). فبينما كانت تأخذ صورة المطابقة في الفيزياء الكلاسيكية، وتبعًا لذلك يتفق الأتباع على قول واحد، فإنها في الفيزياء المعاصرة تنزع إلى التنوع، وتصبح الحقيقة نسبية مرتبطة بتطور العالم، وكأنها مفهوم مصنوع من جدلية التفاعل بين ذهن العالم والمادة التي بين يديه. فلو كانت صورة طبق الأصل عن المادة لما اختلفت آراء العلماء، ولو كانت تصورًا ذهنيًا صرفًا لما كان هناك إطار عام يعترف به الجميع مثل أن هناك ذرة وداخلها إلكترون ونواة وجسيمات أخرى. ولكن الذرة أو الإلكترون لم يرهما أحد، وإنما عرفا بآثارهما، فيبقى الاعتراف بهما تقريبيًا ومتخيلًا.
فتصبح كلمة حقيقة أو مصطلح الحقيقة في ضوء الفيزياء المعاصرة مغايرًا لمفهومها في الفيزياء الكلاسيكية؛ أي: أن الحقيقة في الفيزياء المعاصرة ليست مما يحكم عليها بالصدق والكذب بسهولة؛ لأنها لا تعني المطابقة دائمًا، ولكنها مما يحكم عليها بالفائدة أو عدمها، فإن كانت تفسر وتنفع فهي حقيقة حتى تفقد قيمتها تلك بحقيقة جديدة أنفع منها.
ولا شك أن جرّ مصطلح بهذا المعنى إلى ميادين أخرى يسبب مشكلات كثيرة، ومن ذلك مثلًا وضع تقابل بين الحقائق الدينية المثبتة في الوحي وبين الحقائق الفيزيائية، فإن المقابلة هنا بين ما هو حقيقة التي لا مجال لها إلا الصدق، وبين ما هو حقيقة نفعية تفسيرية قد يأتي ما ينسخها.
وتظهر إشكالية المقابلة هذه من جهتين: من جهة رجال الدين أو من علماء متدينين يريدون استثمار نتائج مثل هذه النظريات لإثبات صحة عقائد أو لبيان سبق الدين إلى كشفها، فماذا هم فاعلون لو جاءت نظرية جديدة تلغي هذه وتستبدل حقائقها بحقائق أخرى؟
(١) انظر مثلًا: فلسفة العلم. الصلة بين العلم والفلسفة، فيليب فرانك ص ٣٠٠ وما بعدها، والفيزياء والفلسفة، جيمس جنز ص ٢٥٩ وما بعدها، ترجمة جعفر رجب.