وتظهر من جهة بعض العلماء غير المتدينين الذين يستثمرون نتائج هذه النظريات في التشكيك بأصول دينية والتكذيب بها؛ لأن في كل نظرية مجالًا لحركة الطرفين، وإن كانت بعض النظريات تميل لخدمة طرف أكثر من آخر فلا يمنع وجود تأويلات معارضة أيضًا، فماذا هم أيضًا قائلون لأتباعهم عندما يحدث في الغد تغيرات في النظرية؟
ومن الواضح أن من بين الأسباب لهذا الاضطراب أن الجميع وضع الحقائق المطلقة مقابل ما يطلقون عليه حقائق المنفعة النسبية، وبسبب الاشتراك في اللفظ وقع الاضطراب في المعنى. ومثل هذا نجده في الكتابات العربية الإِسلامية والعلمانية؛ إذ نجد من الكُتّاب من يستثمر نتائج هذه النظريات لتفسير أصول عقدية، وبيان سبق الإسلام إليها، بينما يجتهد التيار العلماني في استخدام مفهوم الحقيقة النسبية، وتطبيقه على أصول عقدية وشرعية من أجل إثبات نسبيتها، وأنها حقائق مؤقتة تناسب فترة زمنية قد يأتي ما يطورها أو يكون بديلًا عنها (١).
ونجد في هذا المقام المنهجي التشارك بين مفهوم الحقيقة النسبي المرتبط بإشكاليات نابعة من نظرية الكم مع نظرية النسبية لأينشتين، فنسبية "أينشتين" الخاصة تدور حول نسبية الزمان والمكان والمادة والحركة، وهنا مع الكم نسبية تدور حول الحقيقة ذاتها في عالم المادة الصغير.
وبما أن الفيزياء تُعد من أهم علوم العصر وأدقها فإن منهجها وفلسفتها تصبح مركز استقطاب للاقتداء من بقية المعارف، وربما هذا يفسر أن أغلب الكتب التي تتحدث عن فلسفة العلم تجعل أمثلتها الصلبة من مجال الفيزياء. ومع تحول الفيزياء المعاصرة إلى نظريتين كلاهما ينظر للحقيقة بمفهوم نسبي؛ فإن هذا المفهوم سيلقي بظلاله على أغلب مجالات الفكر المعاصر وتياراته، وتصبح كلمة النسبية من أشهر الكلمات دورانًا على ألسنة الناس.
٢ - من نظرية الكم إلى تيارات الفكر. عُرض فيما سبق مسألة منهجية أثارتها نظرية الكم ترتبط بمفهوم الحقيقة. والآن وقفة مع قضيتين تعدان من أهم القضايا التي أثارتها النظرية داخل تيارات الفكر والدين في الفكر الغربي، وهما:
(١) سيأتي الحديث عن هذا الموضوع في الفصل الخامس من هذا الباب.