للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن طريف ما يُذكر في هذا الباب عن أحد الملاحدة أنه التفت دون شعور منه إلى أذن ابنته الصغيرة وتأمل في شكلها "وذكر بينه وبين نفسه أن من المحال أن تكون تلك التلافيف الدقيقة التي تشتمل عليها الأذن قد نشأت عن طريق المصادفة. إنها لا يمكن أن تكون قد نشأت إلا عن طريق خبرة بالغة وتصميم وتدبير. ولكنه أبعد هذه الفكرة عن عقله المارق عن الدين؛ فقد خشي أن يؤدي به هذا النوع من التفكير إلى النتيجة المنطقية، وهي أن التصميم يحتاج إلى مصمم أو مبدع أو إله" (١)، وقد جاء اعتراف هذا الرجل بعد تركه للإلحاد، وهو يكشف صورة من صور الصراع النفسي داخل ذوات مجموعة من الملحدين في المجال العلمي، فالمشاهدات البسيطة فضلًا عمّا يكشفه العلم من حقائق تؤدي إلى الإقرار بوجود الرب سبحانه، ومع ذلك فهو يدفع هذه النتيجة عن نفسه ويجتهد في صرف النظر عنها، وهي في الحقيقة الموقف المعاكس للمؤمن عندما ترده وسوسات الشيطان، فإنه يستعيذ بالله من الشيطان وينتهي عن التفكير في ذلك، فالتفكر لا يوقَف إذا كان يوصل للحقيقة؛ وإنما يوقف إذا كان يوصل للشك في الحقيقة، والإيمان بالله سبحانه والإقرار به حقيقة يتفق عليها البشر، إلا حالات مرضية شاذة.

ومما يزيد عجبنا في هذا الباب أن مجموعة من المسلمين المبتعثين للدراسة في الغرب قد تأثروا بهذه الصورة المَرَضية، واعتقد بعضهم بأن النظرة الوضعية هي خاتمة التطور البشري ولا مجال للعودة إلى الدين، ومن بين آخر الاعترافات ما نجده لأحد أشهر مترجمي الفكر الفرنسي المعاصر حيث يقول: "أعترف بأن هذه التساؤلات كانت قد شغلتني طيلة الفترة الماضية دون أن أجد لها حلًا. كنت واقعًا، كغيري من المثقفين العرب المحدثين، تحت تأثير النظرة الوضعية للأمور، وكنت أعتقد أنها نهائية وأبدية، وكنت أعتقد أيضًا أن جميع المفكرين والعلماء في أوروبا هم ماديون وضعيون لا علاقة لهم بالإيمان أو بالدين" (٢)، وقد كان هذا المُتَخيل عن الفكر الغربي مستوطنًا عقول مجموعة من


(١) انظر: المرجع السابق، الله يتجلى في عصر العلم ص ٤٨.
(٢) العلم والإيمان في الغرب الحديث، هاشم صالح ص ٧، وحادثة التراجعات تتكرر ويأتي معها مثل هذه الاعترافات، انظر: حال مجموعة في: أسس التقدم عند مفكري الإسلام، د. فهمي جدعان ص ٣٣٢ وما بعدها.

<<  <  ج: ص:  >  >>