للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكلٌ من هذه المواقف الأربعة يفتح من الإشكاليات أكثر من الحلول المقدمة، فالأول تعترضه مشاكل كبيرة أحرجت كل المتعاطفين مع الكنيسة؛ لأن إصرارها قد سبب احتقار الناس لها وعدم ثقتهم فيها، فهم قد أدخلوا ضمن لاهوتهم نظريات علمية خاطئة، وصدقتها فيما بعد مجامعهم المقدسة، وأصبحت في مكانة الكتب المقدسة (١)، وأضحى الخروج عليها أو مخالفتها في حكم مخالفة ما أخبر الله به. ومع اتساع معارف الناس العلمية وإصرار الكنيسة على موقفها تكشّف للناس بأن الكنيسة تكذب عليهم أو تخدعهم، وتزلزلت ثقتهم فيها، وبما أنها النموذج الديني الأعلى في تلك البلاد وظهرت مع ذلك بهذه الحال؛ فمن باب أولى تعميم تلك الرؤية السلبية على كل دين؛ لأنهم يقيسون كل دين على دينهم.

وبسبب هذا الموقف المتشدد والمصرّ على الخطأ؛ فقد أوحى للناس من أوحى بأن الدين وأهله يصرّون على أخطاء ويزعمون أنها حقيقة، وأن هذه حال كل دين وحال أهله المتعصبين له. وهي مشاعر نجدها مبثوثة في تاريخ الفكر الغربي المصاحب لتلك الظاهرة التصادمية بين الكنيسة والعلم.

وليست المواقف اللاحقة أحسن حالًا، فإن المشكلة في الموقف الثاني تبقى أن ما يظنونه حقائق محدودة قد ظهرت في الماضي، هي مما يتعارض مع العقل والعلم، فلا يُسلّم بأن الجزء الذي يتوارثونه عن الأنبياء صحيحٌ حتى يقال باستمرار انبثاق الحقائق، وهم في ذلك لا يختلفون عن ضُلّال النصارى الأقدمين، فكل يضيف ويحرف بحسب ما يملي عليه هواه.

والموقف الثالث، الموقف المزدوج (٢)، والقول بحقيقتين، لا يمكن قبوله ما دام التعارض والتضاد قائمًا، وإن رضي به بعض الناس فهو مخالف لبدائه العقول؛ إذ لا يمكن تصور قبول رأيين متعارضين متضادين في باب واحد، ولا يمكن القول بأنهما حقيقيان وصحيحان في الوقت نفسه، ورغم التأسيس المنهجي


(١) انظر: العلمانية. .، سفر الحوالي ص ١٤٨ - ١٤٩.
(٢) انظر: المرجع السابق العلمانية ص ١٥٣، ومما يذكر بأن هذا الموقف العلماني هو مما ورثه الغربيون عن الفلسفة الرشدية التي نقلت إلى أوروبا في عصر النهضة ثم تطورت فيما بعد لتصل إلى هذه الحال، انظر مثلًا: حوارات من أجل المستقبل، طه عبد الرحمن ص ١١١ وما بعدها.

<<  <  ج: ص:  >  >>