للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فبالدليل يكون الفرق بين العلم وغيره؛ وذلك أن هناك نشاطات إنسانية ارتبطت بالعقل، مثل العلوم الدينية والعلوم الدنيوية والفلسفة والفنون والآداب، فما كان له دليل فهو العلم، وما سوى ذلك فليس من العلم، والذي قام عليه الدليل بوضوح ثلاثة أبواب: الدين ومصدره الخبر، والرياضة ومصدرها الاستنباط، والطبيعة ومصدرها الاستقراء، فهذه تسمى علمًا لوجود الدليل عليها، وأعلاها العلم الديني؛ لأن مصدره الوحي، ويأتي بعده في الدرجة العلوم المفضولة من رياضية وطبيعية وما نتج عنها من صناعات وما في بابها (١).

وإذا كان العلم من أهم الفعاليات الإنسانية فإن منه ما يكون مصدره الوحي، وهو العلم الإلهي، وإن كان العقل يستطيع الوصول إلى بعض موضوعاته، ولكنه يضلّ وحده إن لم يعتصم بالوحي، وهذا العلم قد بلغ كماله ونهايته في الحضارة الإِسلامية. ومنه ما يكون مصدره العقل والحس، وهو العلم الذي يوفق الله البشر إليه بما أعطاهم من السمع والبصر والعقل، وهذا حال العلم الدنيوي، وهو علم قد تطور كثيرًا في الحضارة الغربية الحديثة. قال شيخ الإِسلام -رحمه الله-: "فصارت العلوم بهذا الاعتبار: إما أن تُعلم بالشرع فقط، وهو ما يعلم بمجرد إخبار الشرع مما لا يهتدي العقل إليه بحال، لكن هذه العلوم قد تعلم بخبر آخر غير خبر شارعنا محمد - صلى الله عليه وسلم -. وإما أن تُعلم بالعقل فقط؛ كمرويات الطب والحساب والصناعات. وإما أن تُعلم بهما" (٢)، ويقول ابن خلدون -رحمه الله-: "اعلم أن العلوم التي يخوض فيها البشر ويتداولونها في الأمصار -تحصيلًا وتعليمًا- هي على صنفين: صنف طبيعي للإنسان يهتدي إِليه بفكره، وصنف نقلي يأخذه عمن وضعه. والأول. . . . يقف عليها الإنسان بطبيعة فكره، ويهتدي بمداركه البشرية إلى موضوعاتها ومسائلها وأنحاء براهينها ووجوه تعليمها، حتى يَقِفَه نظره وبحثه على الصواب من الخطأ فيها، من حيث هو إنسان ذو فكر. والثاني هي العلوم النقلية الوضعية، وهي كلها مستندة إلى الخبر عن الواضع الشرعي، ولا مجال فيها للعقل، إلا في إلحاق الفروع من مسائلها بالأصول" (٣)


(١) انظر: الفتاوى ١٩/ ٢٣٣.
(٢) الفتاوى، ١٩/ ٢٣١، وانظر: نفس المرجع ٤/ ٢١٠ - ٢١١.
(٣) مقدمة ابن خلدون ٣/ ١٠٢٥ - ١٠٢٦

<<  <  ج: ص:  >  >>