للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يُشبه ما رسمه عن الكون بعمل آلة في مصنع ما إن تشغلها حتى تبدأ لوحدها بالعمل، بينما مشغلها يتفرج عليها وهي تعمل إلى أن يوقفها، وبقدر ما تكون الآلة متقنة وتعمل وفق قواعد محددة؛ كلما قلّ تدخل الإنسان فيها، ومن المؤسف أن المقرين بالرب سبحانه زمن هذه الأحداث جعلوا دور الخالق سبحانه لا يتجاوز دور مشغل تلك الآلة في المصنع -تعالى الله عن ذلك-، حيث صنع الآلة وفق قواعد محددة ثم تركها لوحدها وفق تلك القواعد، وعند بعضهم أنه يقوم بتصحيح بعض الشذوذات الكونية، فوجدها الماديون فرصة للاستغناء عن رب هذا هو قدره ودوره عند المقرين به، فالعالم المادي في نظر الماديين أكبر من ذلك وأعقد، فله قوانينه الخاصة التي يتحرك بواسطتها دون الحاجة لتدبير خارجي، ومن المعلوم أن هذا الموقف المادي الإلحادي قديم، والجديد هنا هو استثمار مفهوم القانون العلمي الذي عرف في العلم الحديث لدعم مذهبهم المادي، مع أن العلم ذاته في باب الفيزياء سيخذلهم فيما بعد على أيدي علماء الطبيعة أنفسهم.

وما كان للدعوة المادية أن تنجح في صرف هذا الاكتشاف للقوانين العلمية إلى خدمة المادية وإعلان استقلال الطبيعة بذاتها؛ فهي برأيهم الموجدة لذاتها والفاعلة لجميع حركاتها وفق قوانينها الخاصة، ما كان لها لتنجح لولا استعداد المجتمع الأوروبي آنذاك لمثل هذا الأمر، فهو من جهة مجتمع مفتون بالعلم؛ مما جعل الكثير وفي سكرة الانبهار بالعلم يصدّقون بمثل هذه الدعوى، صاحبَ ذلك هوىً في نفوس الكثير المتمثل في رغبتهم بإضعاف سلطة الكنيسة ومنع تدخلها في حياة الناس، وشارك في إشعاله تيارات حاقدة داخل المجتمع الأوروبي ترى في انتشار المادية والإلحاد داخل أوروبا طريقًا لنجاحها وبروزها.

وقد كانت الصورة النيوتنية للفيزياء أو طبيعيات نيوتن (١) هي أحسن صورة للعلم وجدوها لبذر صورة جديدة للمادية، وقد كانت فيزياء نيوتن وروحها الفلسفية تساعد على ذلك كما سبق أن ألمحنا إليه في الفصل الأول، وبحسب رأي لايبنتز فإن نيوتن قد صور الرب سبحانه كعامل غير بارع يُحتفظ به كي يقوم


(١) انظر: تاريخ الفلسفة المعاصرة في أوروبا، بوشنسكي، ص ٤٠، وانظر: الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، المسيري، ص ٢٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>